جعفر خضور
إنَّ الحديث عن شخصية الشهيد القائد قاسم سليماني تحتاج إلى جيوش من الأقلام المتخصصة في الفكر والسياسة والعسكر، والسبب وراء ذلك أنَّ الشهيد قد جمع الشيء من كل شيء منها، وكذلك الحال بصفاته وأخلاقه الحميدة التي تمثّل مآثر جليلة حملها في فكره وترجمها في فعله وسلوكه.
وإذا ما أردنا الاستدلال عليها فالميدان هو الشاهد الأبرز والأكثر تعبيراً عن هذهِ المآثر التي بدت جليّة في ثِقَل حضوره ليكون الجندي قبل القائد وليخالف تكتيكات كثير من القادة الذي يقتصر عملهم على التوجيه والإرشاد ووضع الخطط، فالشهيد القائد بحسب ما تعكسه سيرته النضالية الكفاحية كان يتواجد في الخطوط الأمامية الساخنة في نقاط التماس مع العدوّ ولا سيما خلال الحرب الكونية على سورية، وتركيزه على تربية القيادات المحلية وغير المحلية، وعمله على كافة المستويات الأمنية العسكرية السياسية والثقافية والاجتماعية، وأطروحته في ترجيح المقاومة على الاستسلام.
ومن المفيد ذكره أنّ الإيدولوجيا الفكريّة العقائدية للحاجّ قاسم تُرجمت على المستوى العمليّ، أي ربط القول بالفعل، وجعل الممكن محققًا، والمحقق مُنجزًا، وبالتالي هذه الإيديولوجيا تشكل بكل مضامينها فهارس كتاب خُطَّ بأحرفٍ من ذهب ونور، وتحتار عند الكتابة عن هذه الشخصية العظيمة من أين تبدأ، من العاطفة الثائرة أم العقلانية الاتزانية، من الاستراتيجيّة في التكتيك ذاته، أم من التضحية بلا حدود، من الأمنية الكُبرى بالشهادة، عن شخصية عبرت القِفار بالنعال آيسةً عن الرّوح، شهادةٌ استوطنت القلوب وأخذت من يوم الثالث من كانون الثاني من كلّ عام بزوغ فجرٍ بلونِ الدّم المنتصرِ على سيفِ القتلةِ الغادرين، الذين هابوا المنازلة وجهاً لوجه فما كان مِنهم إلا الغدر، وليكن مشهد يد سليماني المقطوعة على أرض المطار في بغداد شاهدٌ دامغٌ على تضحيتهِ أوّلاً، وعلى جُبن عدوّه ثانياً.
لا مناص من ذكر الدور الكبير والهام الذي لعبه الحاجّ الشهيد في العديد من ساحات المقاومة، هذا الدور الذي شكّل شيفرة العمل المقاوم وكلمته المفتاحيّة بالمتابعة الدؤوبة والثناء المباشر، ليُعرف بالرجل الأمنيّ الأوّل في الشرق الأوسط، دور جعله يتربّع على عرش قلوب المقاومين، ولعلَّ من أكثر الساحات التي ظهرت فيها بصمات الشهيد هي الساحة الفلسطينيّة التي فتحت الأفق واسعاً للمواجهة المباشرة مع الاحتلال الصهيوني، عبر نقل السلاح للمقاومة الفلسطينية وفكرة حفر الأنفاق بطول ٣٦٠ كم في قِطاع غزّة التي تعود للحاجّ الشهيد، وطلب إيصال صواريخ الكورنيت لفصائل المقاومة، إضافةً لوجوده الشخصي في غرفة عمليات إدارة حرب تموز إلى جانب السيد حسن نصر الله، والشهيد مغنية، وهو ما صرّح فيه السيّد نصر الله بخطابه في الذكرى السنوية الأولى للاستشهاد، بقوله: “في عدوان تموز ٢٠٠٦ حضر الحاج قاسم سليماني معنا وأصرّ أن يبقى معنا وقالَ لنا إمّا أن أحيا معكم أو أموت معكم”.
ولا يقل الدور أهمية في الساحة السوريّة منذ اندلاع الحرب الهمجيّة عليها، حيث كان له دور جوهري في صياغة وهندسة التفاهم الروسي – الإيراني للمشاركة في صدّ هذه الحرب وهو ما عُرِفَ “بالاستبصار الإيرانيّ”، ويُعزى له نصر حلب والبوكمال، المعركتين النوعيّتين اللتين فتحتا الطّريق أمام تفاهمات سياسية كان ناظمها النصر المُحقق على يد الحاجّ قاسم والجيش العربي السوري بكل فصولها، يضاف لهذا أيضاً أن الحاجّ الشهيد هو من هندسَ خطوط الدفاع الأولى عن دمشق وعلى وجه الخصوص مقام السيدة زينب (ع) عبر العملية المباركة التي أُطلقت، وحملت شعار”لن تُسبى زينب مرّتين” والتي عبّرَ فيها الشهيد أن الدفاع ليس دفاعاً عن حرمة المقام فقط، بل دفاع عن حرمة الحرم الأكبر وهو الإسلام، ومن المفيد إيراده أن الشهيد كان المسؤول عن ترتيبات اللقاء بين الرئيس الأسد وقائد الثورة السيد علي خامنئي بطهران عام ٢٠١٩، ويطول الحديث عن هذا الدور العظيم والكبير، الذي كان له تبعات على كلّ المنطقة في لبنان من خلال دعم حزب الله، والعراق عبر دحر تنظيم داعش الإرهابي، أي الصخرة التي تتكسّر عليها المشاريع الجامحة لتفتيت المنطقة من خلال توفير عوامل المواجهة والدفاع.
ومن نافلة القول أن الشهيد رمز تاريخي كبير سيخلّده التاريخ وتذكره الأجيال وتُذكّر به الانتصارات الناجزة المدهشة، وهذا من بديهيات الوفاء لهذا القائد الذي أفنى عمره متنقلاً بين ساحات القتال والمواجهة، أخاً للمجاهدين وأباً لهم واحدٌ منهم وفيهم، حمل وسام ذو الفقار ألا أنه فاز بوسام الاستحقاق وهو الشهادة بدرجة العلياء التي جعلته لائقاً بالوفود للخالق، وفي سورية نحمل نبراس الوفاء لدم الشهيد سليماني كما الوفاء لدماء شهداء الجيش العربي السوري الأسطوري، فسليماني هو شريك الدّم والنصر، كما قال الرئيس بشار الأسد: “سيبقى ذكر الشهيد سليماني خالداً في ضمير الشعب السوري الذي لن ينسى لسليماني وقوفه إلى جانب الجيش العربي السوري في دفاعه عن سوريا ضد الإرهاب”.
إن ذكرى الشهيد قاسم سليماني لا تدعو للحزن وولوج الألم بقدر ما تدعو للفرح لسببين اثنين واضحين، الأول هو أن محور المقاومة ولّاداً يلد يومياً وفي كلّ لحظة سليمانياً ومهندساً، والثاني أنهم حققوا أمنيتهم وهي الشهادة التي لطالما رغبوا فيها.
وفي معرض هذا الذكرى التي تتجدد دوماً حريٌ بنا القول:
إنّ الحاجّ قاسم سليماني هو وبحق سـيّد شهداء محور المقاومة، وأنّ شهادةَ ميادين القتال لهُ نقطة مضيئة في التاريخ، ودماؤه سترسم حدود الجغرافية التي لطالما رغبَ وضحى في سبيل تحريرها ونصرتها.
حاج قاسم، ستبقى أنفاقُ غزّةَ تذكرك، وسيبقى أثرُ لمسات يديكَ على صواريخِ مقاومتها منطبع.
حاج قاسم، سيبقى صوت صواريخِ المقاومةِ يعزفُ لنا أناشيد النصرِ الأكيد، وينخرُ في قلوب العدو رعباً وخوفاً.
المصدر: صحف