طرح مسار الوصاية على قطاع غزة في مجلس الأمن بصفته إطارًا سياسيًا جديدًا لمرحلة ما بعد الحرب، كحلٍّ دولي لإدارة القطاع وضمان الأمن، لكنه يختزل في جوهره صيغة مصمَّمة لتلبية المتطلبات الإسرائيلية قبل الإهتمام بأي اعتبار فلسطيني. فبدلاً من أن يكون خطوةً لإنهاء الاحتلال أو تأسيس الدولة الفلسطينية، بدأ يعيد إحياء تجارب الانتداب القديمة ولكن بديباجة أممية معاصرة، تدير الأرض الفلسطينية في غزة وفق تصور خارجي لا يعبّر عن إرادة أهلها، ويخشى ان تختزل الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة في مرحلة لاحقة.
إدارة دولية لغزة
المشروع يضع غزة تحت إدارة هيئة دولية تُمنح صلاحيات تنفيذية واسعة، تتصدرها مهمة نزع سلاح المقاومة وتفكيك بناها التنظيمية. وهي مهمة تتطابق تمامًا مع الهدف المركزي الذي تسعى إليه إسرائيل منذ بداية الحرب، ما يجعل هذه الهيئة – عمليًا – ذراعًا دولية لتنفيذ المطالب الأمنية الإسرائيلية. أما مسألة الانسحاب من غزة فتبقى مفتوحة على التقدير الإسرائيلي وحده، إذ يتيح المشروع بقاء «محيط أمني» تراه إسرائيل جزءًا من احتياجاتها الاستراتيجية، ويجعل أي انسحاب مرهونًا بتقديراتها.
ويتجاوز المشروع الجانب الأمني ليضع الإعمار الفلسطيني تحت شروط سياسية، إذ يُربط تقديم المساعدات والبدء بعملية إعادة البناء بإخضاع السلطة الفلسطينية لشروط إصلاحية محددة، وبالقبول بمسار سياسي جديد تُديره القوى الدولية لا الأطراف الفلسطينية. وتُطرح غزة في هذا السياق ككيان منفصل تُدار وصايتها بمعزل عن الضفة، وهو ما يعمّق مسار تفتيت الجغرافيا السياسية الفلسطينية.
أما موافقة أو دعم بعض الدول العربية والإسلامية على هذا التوجه فتعكس حالة إقليمية مرتبكة، لا تقوم على حماية الحقوق الفلسطينية بقدر ما تمهّد لتصفية المقاومة وتثبيت الواقع الأمني الإسرائيلي. هذا القبول يعكس مستوى من العجز أو الارتهان للهيمنة الأميركية، ويضع هذه الدول أمام سؤال حول استقلال قرارها الوطني وقدرتها على تبني مقاربة تنسجم مع طموحات شعوبها لا متطلبات القوى الكبرى.
هذا المسار يفترض أن يحرج المنادين بحل الدولتين و المتمسكين بمبادرة بيروت العربية و الداعين للتطبيع و السلام المبني على التنازلات اللامتناهية.
الحرمان من تقرير المصير
وتكشف القراءة الشاملة لهذا المشروع عن مآلات مقلقة، أبرزها حرمان الفلسطينيين من حقهم الكامل في تقرير المصير، وإخراج المقاومة من المعادلة السياسية عبر محاصرتها دوليًا وإقليميًا. كما يُنذر هذا المسار بتعميق البنية الوكيلة داخل الأنظمة العربية، وتوسيع نفوذ القوى الخارجية على القرار الفلسطيني والعربي، سواء من خلال الوصاية المباشرة أو من خلال اشتراطات الإعمار والمساعدات.
في المحصلة، لا يطرح هذا المشروع إطارًا لحل عادل أو متوازن، بل صياغة جديدة للواقع تُعيد ترتيب المشهد الفلسطيني – الإسرائيلي بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية. ويُعدّ ذلك خطوة إضافية في اتجاه تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى ملف يُدار بالكامل خارج إرادة أصحاب الأرض، ما يستدعي قراءة نقدية ويقظة سياسية حقيقية تجاه ما يُراد فرضه في المرحلة المقبلة.
لا شرعية للقرار
في ضوء ما تقدم، و بما أن هذا القرار قد تجاوز ببنوده الإرادة الفلسطينية الوطنية و تصرف كاتبوه و المؤيدون له كما و أن الشعب الفلسطيني لم يعد موجوداً فهو يمس جوهر القضية الفلسطينية و حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فضلاً عن سيادته. لذلك هو قرار فاقد للشرعية كونه متناقض مع ميثاق الأمم المتحدة الضامن للشعوب تقرير مصيرها بأنفسها.
القرار أرادته قوى الهيمنة المتمثلة بالولايات المتحدة و كيانها الصهيوني المؤقت أن يكون بديلاً عن أي مشروع وطني فلسطيني و تمهيداً لإختزال القضية الفلسطينية في “تسوية غزة”.
الهدف الأساسي كما في غزة كذلك لتنسحب “التجربة الترامبية النتنياهوية” في لبنان و المنطقة و الإقليم هو القضاء على كل مظهر من مظاهر المقاومة عبر قرارات هيمنة بغطاء دولي متناقضة مع حق الشعوب في مقاومة الإحتلال التي كفلها القانون الدولي. لا يحق لأي جهة دولية أو خارجية التدخل في مصادرة سلاح مقاومة وطنية منتمية لشعب تدافع عن حقوقه و وجود أي سلاح وطني مقاوم لا يناقش إلا في أوساط وطنية و في اطار حل سياسي شامل ينهي الإحتلال و يعيد كل الحقوق لأهلها و أصحابها.
بموجب هذا القرار باتت ” قوة الهيبة الدولية” ذراعاً حربية بيد كيان الإحتلال و راعيته الأولى الولايات المتحدة بإدارة سفاحَي العصر ترامب و نتنياهو.
فأي قوة دولية تناط بها مهام داخل القطاع أهمها نزع سلاح المقاومة، تتجرد من الحيادية و تصبح طرفاً في الصراع و شريكة في جريمة العصر ضد الإنسانية، في محاولة لإعادة إنتاج الإحتلال بصيغة إنتداب جديد و بأدوات و تغطية أمميتين.
تحدي الانتداب الجديد
بكل الأحوال نحن أمام مشهد إعادة مسار الصراع الفلسطيني مع الإحتلال و داعميه إلى بداياته منذ نشاة الكيان المغتصب زمن الإنتداب و اليوم نحن أمام إنتداب جهة مهيمنة وحيدة، حولها اتباع خاضعين لإرادتها.
والمستغرب أن يكون أول المرحبين بهكذا قرار وزيرة خارجية سلطة فلسطينية وتعتبره خطوة أولى بإتجاه السلام و هو يستهدف أول ما يستهدف ذات تلك السلطة. المطلوب إعادة بناء جبهة تحرير وطنية تعبر عن موقف موحد للقوى الفلسطينية منسجمة مع تضحيات الميدان و صمود ملحمي لشعب لم يرضخ للإستعباد و الإجرام. و المطلوب من الشعب و القوى الفلسطينية بات مطلوباً من كافة شعوب و دول المنطقة التي لم يعد أي منها في منآى عن خطر هذا الإنتداب الجديد.
المصدر: بريد الموقع
