“إسرائيل بعد 60 عاماً من الدعاء عليها بالزوال في خطب الجمعة، وسوريا بعد 5 سنوات من إصدار فتاوى “الجهاد” لتحريرها”، الصورة المرفقة بهذه العبارة، والمنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي من شأنها أن تلخص الكثير.
محرجة هي القضية الفلسطينية، متلازمة مع كرامة الأمة، محورية هي… فبمقدور فلسطين وحدها أن تُميّز أحقية العناوين وأن تُقيّم الزعامات. محرجة بالفعل كانت ولاتزال، لهذا عمد البعض منذ أن كانت المأساة إلى الاكتفاء بالدعاء إسقاطاً للواجب. في فلسطين اكتُفي بالدعاء، فيما حلّت في ميادين الصراع الأخرى فتاوى الجهاد والنفير، إضافة إلى المعدات والتجهيزات والدعم السخي.
99 عاماً طوتها المنطقة على وعد بلفور، إلا أن حال الأعوام الأخيرة لم يعد ينطبق على مرحلة الأعوام الستين الماضية التي كانت تستحضر الاحتلال ولو خجلاً في أدعيتها، لتحرم فلسطين اليوم حتى من الدعاء!
عشية ذكرى “وعد بلفور” الذي منح قبلة المسلمين الأولى للصهاينة، كان دعاة الأنظمة الخليجية، يغردون من حساباتهم على “تويتر” لاستصراخ الضمير الإسلامي. “أنقذوا الموصل” تحت هذا الوسم نشط الدعاة ضد معركة تحرير ثاني أكبر المدن العراقية من داعش.
الداعية السعودي “محمد العريفي” كتب على “تويتر”: “اللهم كن لأهلنا في الموصل واحفظهم من كل سوء”، قبل أن يعيد نشر إحدى تغريدات المدير العام لمؤسسة الشيخ عيد بن محمد آل ثاني الخيرية القطرية “علي السويدي”، والتي قال فيها الأخير: “نازحو الموصل في العراء يحفرون في الأرض ليستظلوا. لا ماء ولا غذاء ولا كساء ولا سكن. حسبنا الله ونعم الوكيل”.
لم تكن مواقف العريفي غريبة عن سيرته. معتلي منابر الدعوة إلى “الجهاد” في سورية، هو نفسه من ظهر في صور التقطت له مع الجنود السعوديين على حدود المملكة مع اليمن. ماذا كان يفعل العريفي يومها؟ كان يشرعن عملية قتل المسلم السعودي للمسلم اليمني. كان يمحو الوعي القائل إن الجهاد بوصلته فلسطين، لينتج وعياً آخراً يقول إننا في زمن انقلاب الصورة، لم يعد احتلال مقدسات المسلمين جريمة، ولم يعد سفك دم المسلم جريمة، الجريمة والواجب تحددهما مصالح ولي الأمر “حصراً”.
من داخل قصره في قطر، خرج القرضاوي ليسأل من على منصة “تويتر” : ” أين أهل السنة؟لكم الله يا أهل الموصل!”.. رد مغردون عراقيون: “أين كنت عنّا طوال عامين”.
ربما لم يتسنَ للقرضاوي أن يطلع على ما جاء في بيان الحزب الإسلامي العراقي . مع بداية معركة تحرير الموصل ندّد الحزب، المحسوب على جماعة الاخوان المسلمين، بجرائم داعش في محافظة نينوى من إعدام المدنيين وتصفية الكفاءات، وإشاعة أجواء الرعب، داعياَ إلى استكمال ” متطلبات عملية التحرير وإتمامها بشكل عاجل”. فأصدر الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه القرضاوي بياناً هاجم فيه عملية تحرير الموصل.
روّج بيان الاتحاد إلى ان ما تشهده الموصل هو “اعتداء طائفي” بذريعة محاربة داعش، مطالباً ” بالكف عن الانتقام من الموصل،بحجة كونهم حاضنة شعبية لتنظيم الدولة”! دون أن نعلم ماذا فعل الاتحاد لأهل الموصل قبل انطلاق المعركة؟ ودون أن يُسمع للقرضاوي طيلة عامان صوت أو استنكار على ما يُرتكب من تعديات بحق النساء المسلمات أو حتى الايزيديات والمسيحيات عندما كُنّ يُبعن في سوق الرقيق، ودون أن تخرج من الاتحاد توصية بحق إغلاق جامعة الموصل بعد تحويلها إلى معسكر.
ومن خلف الشاشة أيضاً، كان الداعية السعودي سعد البريك يخوض معارك الاسناد للجماعات الإرهابية في سورية والعراق، دون أن يلتفت إلى فلسطين. تساءل الداعية السعودي: “لا نجد تفسيراً للاهتمام بأهل السنّة في الموصل من قبل سليماني الصفوي وروافض الحشد”، فيما كان يجب أن يُسأل البريك نفسه لماذا غاب اهتمامه وأمثاله عن الموصل وأهلها طيلة الفترة الماضية؟ وماذا فعله هؤلاء لانقاذ الموصل من إجرام داعش ليوفروا بذلك على “سليماني” والحشد هذا التدخل؟
في آب/أغسطس 2013، كانت الغارات الصهيونية تقصف يومياً قطاع غزة، ونفذ الاحتلال مداهمات لمخيم جنين استمرت أياماً ثلاث. في الأسبوع نفسه، خرج خطيب جمعة الحرم المكي “عبدالرحمن السديس” في خطبة رنانة بللها بدموعه. كان السديس يبكي إراقة دماء المسلمين وتدمير البيوت من قبل “الطغاة الظلمة”. خطيب الحرم المكي لم يقصد الاسرائيليين حتماً، فلطالما غاب فضح جرائم الاحتلال عن هذا المنبر… كان الداعية السعودي يستنهض الحمية لمجازر قال يومها إنها ارتكبت في دمشق.
مواقف خطيب الحرم المكي، كان استبقها مؤتمر حُشد له بأموال خليجية، وحضرة دعاة “إسلاميون”، ليخرج بتوصيات كان أبرزها: “وجوب الجهاد لنصرة سوريا بالنفس والمال والسلاح”. من داخل مصر المجاورة لفلسطين، لم يلتفت هؤلاء الدعاة إلى المعاناة الانسانية لأهالي غزة، ولا إلى الى التعديات اليومية على المقدسيين، أو اقتطاع الأراضي المستمر في الضفة. لم يكن هناك من “حرب على الإسلام والمسلمين” إلا في سورية –وفق ما أظهرت توصيات المؤتمر-، ليطالب هؤلاء “الحكام العرب والمنظمات الحقوقية بمقاطعة البضائع والشركات والمصانع” وأي تعاملات سياسية مع الحكومة السورية وحلفائها.
في ذكرى “وعد بلفور” تغيب قضية المسلمين المركزية عن تغريدات دعاة كُثر، ممن تداعوا للتحريض ضد تحرير الموصل، لتكون بمثابة اعلان واضح عن اصطفافهم إلى جانب داعش.
كيف وصلنا إلى سوريا المدمّرة؟ وكيف يموت اليمنيون يومياً بجوع إن لم تسقطهم القذائف؟ وأي مستقبل ينتظر الموصل… مواقف الدعاة وتجارب أهل المنطقة كفيلة بالإجابة. يبقى السؤال الأهم: ماذا عن فلسطين…التي كانت حاضرة ولو بخجل في خطب الجمعةعلى الأقل؟
يبدو أنها ستُنسى بالكامل…