بسم الله الرحمن الرحيم
مع اقتراب شهر رمضان المبارك وما يحمله من معاني روحية وانسانية يجب ان نعزز روح التكافل في المجتمع ونقترب اكثر فاكثر من الفقراء والمحتاجين والمتعسرين وهمومهم ومعاناتهم، لا سيما وان الشهر الكريم يأتي هذه السنة في ظل استمرار الازمة الاقتصادية في لبنان وانتشار وباء كورونا، حيث تركا تداعيات كثيرة على أوضاع الناس المعيشية، وزادا من نسبة الفقراء والمحتاجين والعاطلين عن العمل في مجتمعنا، الامر الذي يستدعي حالة طوارىء اجتماعية وانسانية تساهم في دعم هذه الشريحة ومساعدتها على تجاوز الظروف الصعبة التي تمر بها .
لقد اراد الله للحس الانساني تجاه الفقراء ان يرتفع في شهر رمضان الى اقصى مدى من خلال ما افترضه الله في هذا الشهر من عبادات وأعمال، فعندما ندقق في عبادة الصوم وغاياته وبعض احكامه وزكاة الفطرة التي فرضها الله في نهايته، سندرك حجم الاهتمام الذي أولاه الاسلام لموضوع التكافل، وكيف ان الله اراد من هذه العبادات والتشريعات إثارة الحس الانساني لدى الانسان المؤمن، ودفعه للشعور بجوع الفقراء، وإلزامه بمساعدتهم ورعايتهم والتخفيف من آلامهم، حيث نجد ان من جملة اهداف الصيام والامتناع عن الاكل والشرب والاحساس بالجوع والعطش خلال النهار، هو الشعور بالجائعين من الفقراء والمساكين والمحتاجين الذين قد لا يملكون ما يسدون به رمقهم وجوعهم وحاجاتهم، وهذا ما اشارت بعض الاحاديث الشريفة، حيث ورد عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (ع)( يعني الامام الصادق) عن علة الصيام قال: العلة في الصيام ليستوي به الفقير والغنى، وذلك لان الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لان الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله أن يسوى بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع .
وعن الامام علي بن موسى الرضا (ع) في جوابه عن بعض المسائل ان علة الصوم لعرفان مس الجوع والعطش، ليكون العبد ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا، فيكون ذلك دليلا على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظا له ما في العاجل دليلا على الآجل، ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة. فهذا النوع من الاحاديث يدل على ان فلسفة الصيام هي الشعور بجوع الطبقات الفقيرة في المجتمع والمبادرة الى مساعدتهم.
وكذلك نجد ان رعاية الفقراء والمساكين هي في صلب بعض الاحكام والتشريعات المتعلقة بالصوم، فان العديد من احكام الصوم أوجبت على المكلفين الاهتمام بالفقراء والمساكين وإطعامهم ومساعدتهم كبديل عن الصوم في حال تعذر الصوم لسبب من الاسباب: فنجد مثلا ان المريض الذي لا يستطيع صيام شهر رمضان بسبب مرض مزمن او بسبب عجزه وكبر سنه فان عليه ان يدفع عن كل يوم من شهر رمضان فدية هي اطعام مسكين قال تعالى: (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) يعنى أن على الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وحرجا شديدا، ولا يتحملون الصيام لضعف، كالشيخ الهرم، وذي العطاش، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الاخر، أن يدفعوا فدية بدلا من ذلك بإطعام مسكين عن كل يوم يفطرون فيه من شهر رمضان، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء وقضاء، وأوجب عليهم الفدية للمساكين، وليس ذلك الا لان الله اراد ان يكون البديل عن الصوم مساعدة الفقراء والمساكين ورعاية هذه الشريحة المعدمة والمحتاجة.
والملفت ان الفدية لا تسقط عن المكلف إن لم يتمكن من دفعها بسبب عجز مادي او غيره، بل عليه ان يدفعها للفقير عندما يتمكن من ذلك حتى لو مر زمن طويل.
كما اننا نجد في بعض احكام الصوم ان من افطر عامدا في شهر رمضان فهو مخير بين ان يعتق رقبة او يصوم شهرين متابعين او ان يطعم ستين مسكينا عن كل يوم افطر فيه.
ونظرا لعدم وجود للعبيد في العصر الحاضر فانه ينحصر الامر بين خياري الصيام والاطعام فقط، وهما يؤديان إلى نتيجة واحدة لناحية اثارة الحس الانساني تجاه الفقراء، لان المكلف إما أن يعيش الألم الذي يشعر به الفقراء والجائعون من خلال الصيام، أو يقوم بإطعام الفقراء وسد جوعهم، وفي ذلك تأكيد على منظومة التكافل الاجتماعي الذي ارساها الاسلام في المجتمع، كونها الضمانة الاكيدة للآمان الاجتماعي والعيش الكريم.
ومن الاحكام الملفتة في هذا المجال، انه يجب في الاطعام اطعام الفقير حتى يشبع ، وانه لا يجزي وضع الكفارة في الصناديق الخيرية غير المخصصة لذلك بل يجب دفعها الى الفقير مباشرة، كما انه اذا عجز المكلف عن خصال الكفارة الثلاث فان البديل الواجب عليه هو التصدق بالطعام على الفقير قدر استطاعته، ومن الاحكام الملفتة ايضا انه لا يجزي ان يُخرج الزوج الفدية بالنيابة عن زوجته، بل عليها ان تخرجها هي عن نفسها.
ان كل هذه الاحكام والتشريعات تؤكد مدى اهتمام الاسلام برعاية الفقراء ومساعدتهم، وان الله اراد من كل فرد مسلم ان يتعاهد هذه الشريحة ويقف الى جانبها ويشعر بجوعها ومعاناتها، ويعتاد على العطاء والانفاق بنفسه عليها، حتى يشعر كل فرد في المجتمع بالمسؤولية تجاه الفئات المعدمة والمحتاجة.
وقد لعب الصيام دورا مهما في التكافل بين المسلمين لا سيما تجاه الشريحة المعدومة من طبقة العبيد والإماء والفقراء والمساكين من الرجال والنساء والأطفال والأقليات التي بادرت الى الايمان والاسلام والاستجابة لدعوة النبي(ص) في مكة؛ مثل بلال وسمية وعمار وغيرهم من العبيد الفقراء السابقين إلى الإسلام.
ان إغفال البُعد الإنساني للاسلام واحكامه وتشريعاته والذي يُكوّن الموضوع الاقتصادي والمعيشي جزءاً مهماً منها هو خطأ لا مبرر له ، وأهداف الصيام حيال ذلك واضحة جدا، ويُمثل الاهتمام بالجانب الاقتصادي والمعيشي للمجتمع الاسلامي محوراً مهما من محاور الاسلام ويحتل الصيام موقعا مركزياً في صلب هذه المنظومة الفكرية والتشريعية المتكاملة.
وقد اشار النبي الاعظم(ص) في خطبته المشهور في استقبال شهر رمضان الى هذا البعد الانساني الذي يمثله الصيام في شهر رمضان، وشدد على الاهتمام بالفقراء والمحتاجين في هذا الشهر الشريف ومساعدتهم ماديا ومعنويا وتلبية بعض متطلباتهم، وتحقيق بعض حوائجهم، واعتبر ذلك من أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم، حيث قال: (وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، .. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيْتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّنْ عَلَى أَيْتَامِكُمْ..).
وفي مقطع اخر: (أيها الناس! مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ – صلى الله عليه وآله-: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ.)
إننا بحاجة الى تعزيز هذه الروحية الاجتماعية في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها في لبنان والتي باتت تترك آثارا واعباءا وتداعيات كبيرة على الشريحة المحتاجة والمتعسرة، فتكافل ورعاية المحتاجين في هذه الظروف هو واجب ديني واخلاقي واجتماعي وانساني، وهو عمل يساهم في تماسك المجتمع وأمنه واستقراره، ولذلك لا بد من تعزيز المبادرات على صعيد التكافل الاجتماعي من كل الشخصيات والمؤسسات والجهات المقتدرة واحتضانها وتشجيعها والاشادة بها، بدلا من التصويب عليها او العمل على احباطها.
المصدر: موقع المنار