بلال بداح
ضجّت الساحة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام بالتغريدة التي ظهرت على حساب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإمام السيد على الخامنئي (دام ظله) حول “بداية عصر ما بعد أميركا”، وجرى تداولها على نطاق واسع بعدما وردت بعددٍ من اللغات العالمية، فضلًا عن أنها صدرت عن أعلى مرجعية سياسية ودينية في الجمهورية الإسلامية، وفي وقتٍ يُجمع كثيرون ويتحدث كبار المفكّرين عن الأزمة التي تعصف بالولايات المتحدة الأمريكية بعد الترِكة التي خلّفها الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”، تصل الجمهورية الإسلامية إلى وقتٍ يتحدث فيه قائدها عن أُفول أكبر قوّة عظمى في العالم، الأمر الذي لا بدّ أن يكون مبنيًّا على ركائز راسخةٍ وثابتةٍ، ونظرةٍ ورؤيا ثاقبة يجب التوقف عندها.
الإمام الخميني (قده): إرساء النظام الإسلامي
إثنان وأربعون عامًا مرت على انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قده)، مرّت خلالها الجمهورية الإسلامية بتحدياتٍ أثبتت لليوم أنها تجاوزتها بنجاحٍ كبير، كان أبرزها تحدّي تثبيت الحكم الإسلامي والسيادة الشعبية الدينية على أسس ولاية الفقيه العادل، والانطلاق في عجلة بناء الدولة فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
كان نظام “ولاية الفقيه” الذي أرساه الإمام الراحل، من أبرز نتاجات الثورة الإسلامية على الصعيدين الفكري والسياسي، فتأسّس النظام ووُضعت أسس الدولة وأركانها، واستُحدثت مؤسساتها بإشراف كامل من قائد الثورة “الولي الفقيه” الذي حرص في كل خطوة من خطوات التأسيس على ترسيخ مفهوم “السيادة الشعبية” فكان كل ما تم تأسيسه قد ارتكز على استفتاءاتٍ واستطلاعاتٍ وانتخابات.
الخامنئي وليًّا فقيهًا: صعود الجمهورية الإسلامية
عشر سنوات بعد انتصار الثورة، وفي العام 1989 ارتحل الإمام الخميني (قده)، كان التحدي الماثل حينها، تحدٍّ واختبار في آنٍ معًا، إذ كان على مسؤولي الجمهورية أن يخوضوا تحدّي اختيار القائد الجديد، الذي سيحوز فيما بعد لقب “الولي الفقيه”، وكان في ذات الوقت اختبارًا أوّلًا للمؤسسات التي أرساها الراحل في تخطّي هذا التحدّي، فكان أن أثبتت المؤسسات نجاعتها وقدرتها وتماسكها، ليكون بعد ذلك الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) وليَّا فقيهًا ومرشدًا أعلى للجمهورية الإسلامية.
مع الإمام الخامنئي (دام ظله)، كان العالم يشهد السنوات الأخيرة من القرن العشرين التي سقط فيها الاتحاد السوفياتي، ليدخل العالم الألفية الثانية والقرن الواحد والعشرين بسيادة الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأمريكية، والتي نتج عنها ما نتج في العالم لا سيما في عهد جورج بوش الابن وما بعده، لكن الجمهورية الإسلامية أيضًا بقيادة الإمام الخامنئي (دام ظله) كانت ترسم مسارها وتشهد تحوّلاتها وصعودها المتسارع على مختلف الأصعدة.
رؤية الإمام الخامنئي للنظام الإسلامي: خمس مراحل بدأت بالثورة وتنتهي ببناء الحضارة
لم يكُن صعود الجمهورية الإسلامية وليد لحظته، بل كان مسارًا مرسومًا بمهارة، وطريقًا عبّده الإمام الخميني (قده) بالثورة والنظام، وبالرؤى والخطط التي ستؤدي حكمًا في يومٍ من الأيّام إلى هكذا صعود، وكان تميّز الإمام الخامنئي (دام ظله) قائدًا وقيادةً، مع قدراته العالية، ومهاراته النادرة، ومعارفه المتنوعة، العمود الفقري لثبات الجمهورية الإسلامية على هذا المسار واستكماله صعودًا، فكانت رؤيته الثاقبة للمراحل الخمس للنظام الإسلامي التي بدأت بـ”النهضة أو الثورة الإسلامية” وستنتهي عند بناء “الحضارة الإسلامية”، لتكون الثورة البنية التحتية لهذه الحضارة ويكون للولي الفقيه الدور المحوري القيادي لبلوغ هذا الهدف؛ وهنا يمكن بإيجاز شرح المراحل الخمس على النحو التالي:
1- المرحلة الأولى هي النهضة الإسلامية أو الثورة التي قام بها الإمام الخميني (قده) وانتصرت في العام 1979.
2- المرحلة الثانية هي إرساء النظام الإسلامي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النظام الإسلامي القائم اليوم في إيران هو جزء يسير من “ولاية الفقيه” متناسب مع متطلبات العصر والبيئة المتوفرة.
3- المرحلة الثالثة هي مرحلة بناء الدولة والتي يعمل الإمام الخامنئي (دام ظله) اليوم على تثبيت كيانها وتقدمها، ولا يخفى على أحدٍ اليوم بعد اثنين وأربعين عامًا من الثورة مستوى التقدم العلمي والتقني والتكنولوجي الذي وصلت إليه الجمهورية الإسلامية رغم كل العقوبات والتحديات.
4- المرحلة الرابعة، بناء المجتمع الإسلامي وهذه المرحلة تُعتبر من أصعب المراحل التي يمكن تحقيقها، سيّما في ظل الحصار القاسي والعقوبات الهمجية والحرب الناعمة المستمرة التي تستهدف المجتمع بكل فئاته.
5- المرحلة الخامسة والأخيرة، هي مرحلة بناء الأمة والحضارة الإسلامية، وفيها يتم تعميم النموذج الإسلامي للجمهورية، والقيم والمبادئ التي قامت عليها، ليتحلى العالم بالنموذج الأقدس ويكون الظهور المبارك لبقية الله الإمام المهدي (عج).
رؤية 2065: النموذج الإسلامي الإيراني التأسيسي للتقدم
في العام 2018، وبعد قرابة الأربعين عامًا على انتصار الثورة، طلب الإمام الخامنئي (دام ظله) نشر الوثيقة الخاصة التي تتضمن الرؤيا المتكاملة “للنموذج الإسلامي الإيراني التأسيسي للتقدّم”، الذي يمتد حتى العام 2065، وقد تضمنت الوثيقة المباني التي تعرض أهم الفروض الأساسية الإسلامية والفلسفية والعلمية العالمية الهادفة الى التقدم كمباني معرفة الله (المباني الإلهية)، معرفة العالم، معرفة الإنسان (المباني الإنسانية)، معرفة المجتمع (المباني الاجتماعية)، معرفة القيم (المباني القيمية)، معرفة الدين (المباني الدينية)، بالإضافة إلى المُثُل العليا (الأهداف الكبرى)، والرسالة والرؤية، والتدابير التفصيلية لبلوغ النموذج.
كان من التدابير اللافتة التي وردت في الوثيقة، “ترويج وإشاعة تعاليم الأخلاق الإسلامية والمعايير الدينية والدعاية العملية للدين”، و”شرح وترويج الإسلام المحمدي الأصيل بحسب متطلبات العصر الراهن”، و”تطوير الدبلوماسية العامة”.
دون عناء، إذا أردنا إرجاع هذه التدابير إلى رؤية القائد للنظام الإسلامي نجدها متصلة اتصالًا وثيقاً بالمرحلتين الرابعة والخامسة من رؤيته، أي بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية، أو في ما عُرف مؤخّرًا بـالخطوة الثانية للثورة الإسلامية، فما الذي يعنيه القول “الترويج بحسب متطلبات العصر الراهن”، أو “تطوير الدبلوماسية العامة”، إنه لا مجال للشك بأن أحد مصاديق هذا القول هو استخدام الوسائل الحديثة في الشرح والترويج والنشر في الطريق نحو بناء الحضارة، وهذا يقودنا حكمًا إلى الساحة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
يعتبر الإمام الخامنئي وسائل التواصل الاجتماعي “فرصة للإبداع في العمل”، ليخلق بذلك ميدانًا جديدًا لـ”بناء الحضارة الإسلامية”، فإضافةً لميادين الحوزات، والجامعات، والمساجد، ووسائل الإعلام التقليدية، أصبحت الساحة الرقمية اليوم من الساحات الأهم في عملية البناء.
“الولي الفقيه” في الساحة الرقمية: حسابات رسمية ورسائل مباشرة
لن يبدو هذا غريبًا بعد أن نرصد خطابات السيد القائد (دام ظله) حول وسائل التواصل الاجتماعي وضرورة الاستفادة منها، حتى أنه أفرد لها أحكامًا فقهيةً خاصةً عُرفت بـ”أحكام وسائل التواصل الاجتماعي”، ولن يبدو غريبًا أيضًا، بل قد يبدو مفاجئًا لغير المتابعين، عندما نرصد حسابات “الولي الفقيه” الرقمية، إذ بات يمتلك اليوم فضلًا عن موقعه الإلكتروني الرسمي (Khamenei.ir) وموقع مكتبه (Leader.ir)، حسابات على كل من فيسبوك، تويتر، إنستاغرام وتيليغرام، إلا أن أهم ما يمكن ملاحظته ربطًا بالحديث عن الساحة الرقمية والدبلوماسية العامة هو عدد الحسابات على موقع Twitter، وتعدد لغاتها، إذ تشمل أكثر من 14 حسابًا رسميًا بلغات مختلفة، كالفارسية، العربية، الإنكليزية، الأوردية، الإسبانية، الفرنسية، الروسية، الألمانية، الإيطالية، التركية، الهندية، فضلًا عن حسابات متخصصة كالحساب الخاص بقضايا المرأة والأسرة ونمط الحياة “ريحانة”، وغيرها الخاص بالإصدارات الإعلامية بمختلف أشكالها (الفيديو، الفيديوغراف، الإنفوغراف، مقاطع خطابية…).
تنشط هذه الحسابات وتلقى تفاعلات ضخمة وانتشار واسع لما بعد الأطلسي، وتتناول مختلف القضايا ذات الصلة بالأمة والمستضعفين في العالم، وتنشر وتروّج لمواقف القائد في القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية سيما القضايا المعاصرة التي تواجه الأمة كنصرة فلسطين، ومحاربة التطبيع والعداء للكيان الصهيوني وفضح الانتهاكات والسياسات الأميركية في المنطقة والعالم، ودعم حركات التحرر والمقاومة، لتساهم بذلك الارتقاء بـ “مستوی التفكير والوعي السیاسي” لا سيما عند فئة الشباب في هذه الشعوب والبلدان، وتشكل جسرًا ووسيلة لاستكمال “الخطوة الثانية للثورة الإسلامية”.
تصويب البوصلة: رسائل “الولي الفقيه” للشباب الغربي
كان من أوضح تجلّيات الدبلوماسية العامة للولي الفقيه الرسائل الخاصة التي وجهّها وخاطب فيها الشباب الغربي، فالأنشطة التي يتم توجيهها للخارج في مجالات كالمعلومات، والتعليم، والثقافة، والتراث، والتاريخ، والأيديولوجيا والدين، هي وسيلة من وسائل الدبلوماسية العامة، حيث وجّه القائد هذه الرسائل وطرح مواضيع جديدة ومعاصرة وشرح فيها المفاهيم والرؤية الحقيقية للثورة الإسلامية بعيدًا عن البروباغندا التي تحاول تشويه صورتها، وهنا يقول متابعون أن إرسال الرسالة تلوَ الأخرى يعني أن تقييم الرسائل الأولى كان إيجابيًّا، وترك أثرًا مهمًّا، ما استدعى استكمال هذه الخطوات برسائل ووسائل جديدة.
تعبُر الثورة اليوم من خلال “الدبلوماسية العامة للولي الفقيه” حواجز البلدان، ويصل شعاعها للمشرق والمغرب، وتخطو بخطوات ثابتة ومتماسكة نحو الهدف المنشود، فالنموذج القدوة، والكلمة الحق، والقيم السامية، ستعلو وتسود وتنتصر، فلطالما تم الحديث عن أفول الولايات المتحدة و”انتقال القوة”، لتتمركز بعدها في آسيا، ورغم أن معظم المنظّرين يتحدثون عن صعود الصين، إلا أن النموذج الإسلامي والحضارة الإسلامية مع هذا القائد الريادي، بهذه الهمّة الاستثنائية، لا شك سيكون لها في السنوات القادمة الدور الأكبر في المنطقة والعالم حتى بزوغ شمس الولي الأعظم.
المصدر: موقع المنار