نص الخطبة:
لا يكفي في الانسان المسلم والمؤمن بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر مجرد الاعتقاد القلبي والإيمان الداخلي، من دون ان يتجسد هذا الايمان في العمل والممارسة، فالمسلم هو الذي يؤمن باصول الاسلام وضرورات الايمان، ويطيع الله فيما أمر به وفيما نهى عنه، ويعكس ايمانه في إطاعته لله، وفي عمله وسلوكه واخلاقه ومواقفه وعلاقاته، وفي كل جانب من جوانب حياته.
ولذلك فالمسلمون والمؤمنون الذين يدعون الايمان والانتماء الى الاسلام ورسول الاسلام، ويتهاونون في طاعة الله ولا يبادرون الى العمل بما افترضه الله عليهم من عبادات وطاعات، ويتمردون على الله ويستخفون باحكامه، ولا يبالون بحلاله وحرامه، ويستهترون بمعصيته ولا يتورعون عن ارتكابها، هؤلاء .. لا قيمة لإيمانهم .
هناك العديد من الناس ممن يدعون الايمان والاسلام هم كذلك، يؤمنون، ويعتقدون باصول الاسلام، ولكنهم عمليا وسلوكيا يستخفون ويتهاونون ويستهترون بما أوجبه الاسلام عليهم .
والاستخفاف بصورة عامة له مصاديق وانواع متعددة ابرزها :
اولا: الإستخفاف بالله، والاستخفاف بأوامر الله وآياته، بحيث يتخذ الانسان آيات الله ووعيده وما أنذر به هزواً، اي يستهزء بأوامر الله ويسخر من احكامه، ولا يؤمن بجنته وناره، ولا بوعيده وعذابه.
وقد أشار القرآن إلى هذه الفئة من الناس بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾ وفي آية اخرى: يقول الله تعالى: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا﴾.
فمن لا يبالي بوعيد الله وعذابه وناره، فيتمردعلى الله ويستخف بطاعته، فانه يسخر ويستهزء باوامر الله وآياته وتشريعاته.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: “إيّاكم والتهاون بأمر الله عزَّ وجلَّ، فإنّه من تهاون بأمر الله أهانه الله يوم القيامة.
ثانيا: الاستخفاف بالعبادة ، بان يتهاون الانسان بالفرائض والعبادات التي اوجبها الله عليه ، إما بأن يتركها كليا ولا يأتي بها اصلا، ومن يفعل ذلك يموت يهودياً أو نصرانياً كما ورد في الحديث. او انه ياتي بها تارة ويتركها أخرى، حيث إن بعض الناس مثلاً لا يصلّي إلا في شهر رمضان.او انه ياتي ببعضها ويترك البعض الآخر كان ياتي بالصلاة والصوم ولكنه يترك الحج والخمس مثلاً. أو انه ياتي بها لكنه يستخف ويتهاون في أدائها بشكل صحيح فمثلا بعض الناس يصلي لكنه يتهاون بأجزاء الصلاة وشروطها واحكامها، فيتهاون بالوضوء او بالركوع والسجود او بالقراءة مثلا فلا يؤديها بشكل صحيح، او يؤخر الصلاة الى خارج وقتها بسبب انشغاله في اعماله او وظيفته ، او يقوم بها من دون خشوع ولا حضور قلب… الخ، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بصلاته”.
ثالثا: التهاون في أكل المال الحرام والنجاسات، والاستخفاف بالطهارة،
فقد روى أن رجلاً أتى إلى الإمام الباقر عليه السلام فقال له: “وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟.
فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله.
فقال له الرجل: الفأرة أهون عليَّ من أن أترك طعامي من أجلها.
فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدينك…”.
ولذا لا بدّ للمؤمن من عدم الاستخفاف بطعامه ولا سيّما اللحوم، من حيث الطهارة والنجاسة، لأنّ لها آثاراً تكوينيّة روحيّة على جسمه وقلبه، وأثاراً تكليفية تشريعيّة من حيث الحرمة والعقاب.
وكذلك لا بدّ من الانتباه الى أكل المال الحرام او المشبوه؛ لأنّه سيسأل عنه يوم القيامة، من أين جاء به؟ وأين صرفه؟.
فعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة من بين يدي الله حتّى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين كسبته، وأين وضعته، وعن حبّنا أهل البيت عليهم السلام”.
رابعا: الاستخفاف بالذنوب والمعاصي لاسيما الصغيرة منها، فالاستخفاف بالذنوب هو من أشدّ الذنوب عند الله سبحانه وتعالى. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: “لا تحقرنّ صغائر الآثام فإنّها الموبقات، ومن أحاطت به محقّراته أهلكته”.
على الانسان ان يراقب نفسه ويخاف الله، فلا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك، بل راقبه، وإذا جلست للناس فكن واعظاً لنفسك. ولا يغرنك مجاملاتهم لك واقبالهم عليك. فإنهم يعرفون ظاهرك. والله يعرف ظاهرك وباطنك.
فقد روى اسحاق بن عمار عن الامام الصادق(ع) انه قال: يا إسحاق خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن شككت أنه يراك فقد كفرت، وإن أيقنت أنه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين إليك.
خامسا:الاستخفاف والاستهزاء بعباد الله، فعن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث المناهي قال: “ومن استخفّ بفقير مسلمٍ فقد استخفّ بحقّ الله، والله يستخفّ به يوم القيامة إلا أن يتوب”.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: إن الله خبأ ثلاثة في ثلاثة: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئا، فلعل رضاه فيه. وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا، فلعل سخطه فيه. وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحدا، فلعله الولي.
وللاستخفاف والتهاون بأمر الله وآياته ودينه وعبادته واحكامه آثارٌ ونتائج خطيرة في الدنيا والآخرة، أهمّها: أن الاستخفاف بطاعة الله يجعل حياة الانسان حياة شاقة وصعبة، ويعرض الانسان لنسيان الله له، وللعذاب في الآخرة، والخلود في النار.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
ويقول عزوجل: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
ويقول سبحانه: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾.
والحمد لله رب العالمين.