إن كنت تقرأ جملة (مثل هذه) عن ركل كرة قدم مثلاً، فإن الخلايا العصبية المتواجدة في ساقك وقدمك سيتم تفعيلها داخل دماغك، وبالشكل ذاته فإن تحدّثنا عن طبخ الثوم، فإن الخلايا المسؤولة عن حاسة الشم سيتم تفعيلها داخل الدماغ.
وبما أنه من المستحيل أن نفكّر بأي أمر دون استخدام اللغة، سواء تضمّن هذا الحوار الداخلي الذي نجريه مع أنفسنا أو كان نصاً مكتوباً أو مفصحاً عنه، فإن اللغة تتحكم بأدمغتنا وحياتنا أكثر من أي مهارة أخرى.
ومنذ أكثر من قرن تم التأكّد من أن مقدرتنا القصوى على استيعاب اللغة تقع في الأغلب بالشق الأيسر من أدمغتنا، وبالتحديد في جزأين: منطقة بروكا (المرتبطة بإنتاج الكلام والنطق)، والثانية هي منطقة فيرنيك (المسؤولة عن الإدراك)، وأي ضرر يمكن أن يلحق أيّاً من هذين الجزأين، سواء جراء إصابة أو سكتة، يمكنه أن يؤدي إلى مشاكل في اللغة أو الكلام أو ” aphasia” المعروف باسم “الحبسة” وهي فقدان المقدرة على النطق باللغة.
خلال العقود الماضية اكتشف علماء الأعصاب بأن استيعاب اللغة والكلام وتحليلهما ليسا بالعملية البسيط، وأنهما لا يقتصران على جزأين فقط من الدماغ أو على شق واحد منه، وأن الدماغ يمكنه أن يكبر حجماً كلما تعلّمنا لغات جديدة. إذ كشفت دراسات حديثة بأن الكلمات ترتبط بمناطق مختلفة من أدمغتنا وفقاً لموضوع الحديث أو معناه، ويهدف علماء الأعصاب إلى إعداد أطلس ثلاثي الأبعاد للمواقع التي يتفاعل بها الدماغ مع الكلمات المختلفة، وذلك بإجراء مسح لأدمغة أشخاص خلال استماعهم لمحطة راديو لعدة ساعات.
اذ قامت كلمات معيّنة بتحفيز أجزاء مختلفة من الدماغ، وهذه النتائج أثبتت وجود اتفاق موسّع حول الأماكن الدماغية المرتبطة بالمعاني المختلفة للكلمات، رغم أن هذه الدراسة اشتملت على مجموعة صغيرة من الناس، هذه المجموعة تضمّنت متحدّثين باللغة الإنجليزية سجّلت معلوماتهم خلال استماعهم للغة الإنجليزية، الخطوة التالية ستكمن في العثور على معاني الكلمات للمتحدثين بلغات عدا الإنجليزية، وقد أظهر بحث سابق بأن الكلمات التي تحمل المعنى ذاته باللغات المختلفة تجمّعت بالمناطق ذاتها لكلتا المجموعتين، وحتى للناطقين باللغتين.
ويبدو أن المتحدثين بلغتين، يملكون مسارات عصبية مختلفة لها، ويتم تفعيل المسارين حتى لو استخدمت لغة منهما، وكنتيجة لذلك فإن المتحدثين بلغتين يقومون بكبت إحداها دون أن يدركوا ذلك، لكي يتمكنوا من التركيز والتحدث بلغة واحدة خلال إجراء حديث مع شخص آخر.
كما يبدو أن الأنماط العصبية المختلفة للغات تنطبع في أدمغتنا إلى الأبد، حتى لو لم نستعملها بالحديث بعد تعلّمها، إذ أظهرت مسح أجري على أدمغة أطفال بكندا تم تبنيهم من الصين عندما كانوا رضّعاً، بأن إدراكهم العصبي للأحرف الصينية كان موجوداً حتى بعد مرور سنوات، وحتى بالرغم من عدم نطقهم لكلمة واحدة بالصينية خلال حياتهم.
وهكذا، حتى إن “فقدنا” لغة، بحال عدم ممارستنا لها أو بحال إصابتنا بـ “الحبسة”، فمن المحتمل أنها لا تزال موجودة بأذهاننا، ما يحفّز استخدام التكنولوجيا لفك الشبكة المعقّدة للكلمات في عقولنا، أفكارنا وخواطرنا، حتى في الأشخاص الذين لا يمكنهم النطق، فعلماء الأعصاب بدأوا بتطوير جهاز يمكنه الإصغاء لحوارك الداخلي، وجهاز آخر يسمح لك بتحريك مؤشر باستخدام دماغك، بينما يتيح آخر التحكّم بالقدرات الحركية لشخص آخر من خلال وصل الإشارات الدماغية بينهما عبر الإنترنت.
وهذا يمكن أن يمنح فرصة جديدة لمن فقد القدرة على الحديث أو من يواجه مشاكل في النطق، وعرض الكلمات المتواجدة في أذهانهم إلى من حولهم، يمكن أن يشكّل خرقاً علمياً هائلاً.