جاء في خطبة الجمعة لنائب رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله الشيخ علي دعموش:
“قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾.
وقال تعالى:﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ الطلاق: 7
لا شك أن الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي نعيشه في لبنان نتيجة تراكم الازمات الاقتصادية والمالية منذ ثلاثين سنة، ينعكس سلبا على الجميع، على الفرد والأسرة والعائلة والمجتمع برمته، ويترك تأثيره الكبير على حياة الناس .
ويجب ان لا ننسى ان هناك معركة حالية تقودها الادارة الامريكية ضدنا، هي معركة العقوبات الاقتصادية والمالية، والإفقار، والحصار المالي والاقتصادي.
إنّ هذه العوامل والظروف التي نمر بها على هذا الصعيد المعيشي، تفرض علينا جميعا وعلى كلّ مواطن إجراء التدبير المناسب في المعيشة، بأن يحسن ادارة معيشته ومصروفاته، وان يعيد النظر في نفقاته ، فليس صحيحًا أن يبقى مستوى إنفاق الفرد او الأسرة في ظل ظروف من هذا النوع، بنفس المستوى الذي كان عليه في الحالات العادية او في حالات الرخاء، حين يكون الوضع الاقتصادي والمعيشي عاديا.
اليوم في لبنان ونتيجة الاوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة التي يمر بها نجد الكثير من المشكلات :
فالسيولة فقدت بنسبة كبيرة، والبنوك لا تعطي المودعين الا القليل من ايداعاتهم، كما ان التحويلات المالية متوقفة، وهناك عمال وموظفون لا يحصلون على اكثر من نصف الراتب ، وقيمة الليرة في انخفاض مستمر امام الدولار، واسعار السلع والمواد الاساسية ارتفعت بشكل كبير وبدأت بعض السلع الأساسية تفقد من الأسواق، وهناك نفقات كثير يدفعها اللبناني مرتين مثل الكهرباء والماء الخ..
كل هذه العوامل تستوجب ترشيد الإنفاق تبعًا للظروف القائمة، وليس من المعيب أن تجري العائلات إعادة النظر في مستوى الإنفاق، وإنّما الخطأ هو إغفال هذا الأمر.
ولعل من فوائد الشدة المالية العودة إلى الله واللجوء إليه لطلب الرزق والكفاف..واعادة النظر في مصروفاتنا الفردية والمنزلية وان نصبر لمواجهة هذه الازمة.
ومن لوازم الصبر على الضيق المالي والحصار المالي والاقتصادي، القناعة، والقبول بما تيسر، وتنظيم الأمور، ونحن قادرون على العيش في كل هذه الظروف، أن نصبر على بعضنا، أن لا تكون توقعات الزوجة من الزوج مرتفعة وان لا تكون توقعات الأولاد عالية من الوالدين بشأن المصارفات.
وينبغي أن يجتمع كلّ ربّ أسرة مع أفراد عائلته، ويحدثهم عن ضرورة الترشيد، والحدّ من الإنفاق، والتحمل في ظل هذه الظروف لكي نتمكن من تجاوز هذه الازمة.
والاسلام أكد على ضرورة ضبط الإنفاق والمصروف وترشيده وحذر من الاسراف والهدر والتبذير؟، حفظاً للمقدرات من الضياع، وصوناً للفرد والعائلة وللمجتمع من الفقر والعوز، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) :إيّاكم في السرف في المال والنفقة، وعليكم بالإقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا.
وعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: عليك بالإقتصاد، وإيّاك والإسراف، فإنّه من فعل الشيطنة.
وهناك منهج قرآني واضح لإدارة الإنفاق وتدبير المعيشة. حيث يقول تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾، إنّ مدار الإنفاق يقوم على مدى توفّر القدرة المالية، فمتى ما توفّر المال فلينفق الانسان بطريقة مناسبة، أمّا إذا ضعفت القدرة المالية، فينبغي أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، ولا ينفق الا بمقدار الضرورة الملحة حتى إذا تحسّنت الظروف، وعبرت الأزمة ، يعود الى الحالة العادية.
ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: صلاح العيش التدبير.
وجاء عنه (ع) أنّه قال: “القليل مع التدبير أبقى مع الكثير مع التبذير”.
هناك الكثير من الناس لا يوازنون بين دخلهم المالي ومستوى الإنفاق، إنّ أكثر العائلات لا تضع ميزانية تراعي التوازن بين الدخل والصرف، ويجري من خلالها تحديد مقدار الصرف على كلّ بندٍ من بنود المعيشة، من المأكل والمشرب، والملابس والمواصلات والترفيه، حيث تجتاح مجتمعاتنا نزعة استهلاكية ، وهناك عادات اجتماعية تشكل ضغطًا في مسائل الإنفاق على الانسان ان لا ينساق معها.
مثلا هناك الكثير من الشباب لا يقدمون على الزواج بسبب التكاليف الباهظة، وهناك نسبة عالية من تكاليف الزواج تذهب لتغطية استئجار القاعة التي يقام فيها العرس، ناهيك عن العادات والأعراف المستجدة التي تتزايد بين حين وآخر، فلم يعد يُكتفى باحتفال واحد يقام ليلة العرس، بل صار لعقد القرآن احتفاله الخاصّ أيضًا، بل ان البعض من ذوي الدخل المحدود يحمل نفسه دينا كبيرا لتغطية تكاليف زواج ابنته، ويعلل ذلك بان الأعراف الاجتماعية السّائدة في مسألة الزواج تقتضي ذلك، علما انه قد لا يملك ما يُسدّد به هذا القرض فيما بعد!.
هناك مشاكل عائلية نتيجة عجز الزوج عن تلبية رغبة زوجته في شراء هدية باهظة الثمن، لتقدّمها إلى قريبتها أو صديقتها في مناسبة أو أخرى، وهناك انقطاع في العلاقات الاجتماعية احيانا نتيجة ان العادت تفرض اخذ هدية ثمينة لمن تزورهم من الاقارب والاصدقاء في مناسباتهم، كما ان بعض الناس رجلا او امرأة، تراه يذهب إلى السوق من دون هدف محدّد، على أمل أن يرى شيئًا يشتريه، بحيث يتحوّل التسوق عنده إلى مجردهواية ومتعة، ويشتري اشياءا ليست مورد حاجته ولا حاجة بيته وعياله، وانما يملىء بها خزانته او بيته.
اما أهم مجالات ترشيد الإستهلاك والانفاق فهي:
1- ترشيد الإنفاق عل المستوى الفرديّ وخاصة جيل الشباب كصرف المال في الملاهي والمطاعم والمقاهي والأمور العبثيّة وتمضية الوقت بلا طائل، كالسهرات الفارغة والرحلات غير الموجّهة دون التفكير في تدبير المستقبل من قضايا الزواج والأسرة وطلب العلم.
2- ترشيد الإنفاق على مستوى الأسرة والعائلة بان تدقق الاسرة في مصاريفها سواء على الطعام او اللباس او الاثاث اوالمقتنيات المتعلقة بالمنزل، الزواج ، الكماليات وما شاكل فتنفق بمقدار الحاجة الضرورية وتدخر ما بقي للزمن الصعب.
قال تعالى: ﴿كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾
وجاء في صفات المتقين عن أمير المؤمنين عليه السلام: “ملبسهم الإقتصاد “.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: للمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له، ويلبس ما ليس له، ويأكل ما ليس له.
على الانسان ان يضع سياسة تتوازن بين الراتب وموارد الصرف وان ينتبه للمسائل الصحيّة والعلميّة واقساط المدارس، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: “حسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الإسراف”.
3- ترشيد الإنفاق على مستوى المجتمع وعلى مستوى البلديات والمؤسسات والجمعيات: ويتجلّى في عدم التفريط بالمال العامّ لأمور شخصيّة او لا تفيد الناس ولا تخفف من معاناتهم، وصرف هذا المال في الموارد التي هي حاجة الناس الضروريّة والإبتعاد عن مظاهر الترف عند المسؤولين، كما يتطلّب من الفرد والعائلة التعاون في ترشيد استهلاك الطاقة والمياه وكافّة المقدّرات المهمة.
عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ القصد أمر يحبّه الله عزّوجلّ، وإنّ السرف يبغضه الله حتى طرحك للنواة فإنّها تصلح لشيء، وحتى صبّك شرابك”.
لو راجعنا سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، في فترة توليه الحكم، نلاحظ أنه أول من جرّب “الترشيد في الانفاق” بنجاح منقطع بشكل حقيقي وبامتياز، فقضى على ظاهرة الفقر في الكوفة وفي جميع المناطق التابعة للدولة الاسلامية، ولعل قصته مع ذلك الفقير الذمّي، أشهر من أن تكرر، وكيف أنه استهجن وجوده في قارعة الطريق، وعين له راتباً من بيت مال المسلمين.
إن السر في هذا النجاح الباهر والمنقطع النظير، يكمن في شخص هذا الحاكم، فالامام، عليه السلام، بدأ من نفسه في تطبيق “الترشيد”، ولذلك أمثلة عديدة يذكرها التاريخ، منها: إطفاءه السراج داخل بيت المال، لدى دخول أحد الاشخاص لأمر خاص وشخصي، وطريقة الكتابة بأسطر متقاربة في رسائله حتى لا يستهلك قراطيس للكتابة، بل انه، عليه السلام، أصدر تعميماً لولاته بأن “أدقوا أقلامكم وقاربوا بين سطوركم…”! ومن قراراته ايضاً؛ ما جاء في الحديث عنه بأن “…واحذفوا عني فضولكم، واقصدوا قصد المعاني”، بمعنى الاختزال في وقت الحاكم والمسؤول وفي وقت العمال والموظفين. وهذه التفاتة حضارية اخرى منه، عليه السلام، لتدليل على قيمة الوقت في البناء الاقتصادي.
اليوم نحن نعيش ازمة اقتصادية ومالية في لبنان نحتاج في مواجهتها الى هذه السياسة والى الالتزام بهذه التعاليم واتباع سياسة الترسيد في الانفاق، لان المطلوب ان نساعد انفسنا اولا قبل ان نطلب من الخارج مساعدتنا، وهناك دول لاتساعد اصلا.
فالادارة الامريكية التي تسعى لتحقيق اهدافها السياسية في لبنان من خلال استغلالها لاوجاع الناس ومطالبهم المعيشية، لا يعنيها الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان ولا المستوى المعيشي الصعب الذي يعيشه الشعب اللبناني ، وهي لم تساهم ولا لمرة واحدة في مساعدة لبنان على معالجة ازماته الاقتصادية والمالية الأساسية بل على العكس من ذلك تسببت ببعض أزماته، وفاقمت من الازمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان، وأفقرت الشعب اللبناني، من خلال العقوبات المالية التي فرضتها على لبنان، واجراءات التضييق على المصارف والبنوك وإقفال بعضها، وعرقلة استخراج النفط والغاز الا لمصلحة الشركات الامريكية، ووضع فيتو على الشركات الصينية والروسية وغيرهما ومنعهم من الاستثمار في لبنان.
ولكن وبالرغم من خطورة الوضع الاقتصادي والمالي في البلد، إلا أنه لا تزال هناك إمكانية لتدارك هذا الوضع المتردي، وذلك من خلال تشكيل حكومة توحي بالثقة للناس، وتبادر الى اتخاذ إجراءات فورية توقف التدهور الاقتصادي والمالي القائم.
النَّاس لم تعد تحتمل الازمات المعيشيّة والمالية التي تتفاقم يوما بعد يوم نتيجة الغياب الحكومي، معتبرا: ان المناورات وإضاعة الوقت واللعب على حافة الهاوية والضغط لفرض شروط معينة لتشكيل الحكومة لم يعد مقبولا في ظل ما يعاني منه الناس والبلد ، ولذلك لا بدَّ من حسم اسم رئيس الحكومة والاسراع في تأليفها لتقوم بمسؤولياتها على صعيد تلبية مطالب الناس المعيشية وتقديم المعالجات المطلوبة للوضع الرهان.
والى حين تشكيل الحكومة الجديدة فان على الحكومة المستقيلة ان تقوم بواجباتها على صعيد ادارة شؤون الدولة وتسيير أمور الناس وتقديم الخدمات لهم، فاستقالة الحكومة لا تعني إستقالتها من مسؤولياتها تجاه المواطنين، بل لا بد من تسيير المرافق العامة ومتابعة الرقابة على اسعار المواد والسلع الآخذة بالارتفاع وتصريف الأعمال بالطريق التي تساعد الناس على ممارسة حياتهم العادية.
المصدر: العلاقات الاعلامية