نص الخطبة
نعزي رسوالله (ص) وصاحب العصر والزمان وعموم المسلمين والمؤمنين بشهادة الامام التاسع من أئمة اهل البيت(ع) وهو الامام محمد الجواد(ع) الذي كانت شهادته في التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 220 هجرية.
وقد تحدثنا سابقا عن الامام الجواد (ع) وبعض ما يرتبط بحياته، ونتحدث اليوم بمناسبة اسبوع الاسرة الذي يتزامن مع مناسبة زواج النورين علي وفاطمة عليهما السلام في الاول من شهر ذي الحجة، عن مكانة وأهمية الاسرة ومقومات وصفات الاسرة الصالحة والناجحة.
تتكوَّن الأسرةُ في الإسلام من الزوج والزوجة والأبناء، وفي النطاق الاوسع من هؤلاء ومن الوالدين والاخوة والاخوات، والزواج الطبيعي اي زواج الرجل من المرأة والمرأة من الرجل هو الاساس في تكوين الاسرة، اما الزواج المثلي فهو شذوذ وخلاف الطبيعة البشرية وهو لا يشكل أساسا لبناء اسرة .
يقول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]،
لذلك الإسلام جعل الزواجَ السبيلَ الوحيد لتكوين الأسرة، بالشكل الذي يحفظ الحُرُماتِ والأنسابَ، ويُلبِّي الغرائزَ الطبيعية في إطار من العفَّة والخصوصية، ويحقق لطرفي الزواج ما يبحثان عنه من الراحة والهدوء والسكن والاستقرار .
وقد منح الإسلام الاسرة أهميّة كبيرة؛ فالأُسرة التي تنجم عن زواج شرعي بين الرجل والمرأة هي اللبِنة الأولى والأساسيّة لبناء المجتمع، وليس الفرد هو أساس المجتمع، بل الاسرة هي الحاضنة الاجتماعيّة المهمّة للفرد؛ حيثُ ينشأ مع والديه وأخوتِه، ويشعر بالسلام خلال وجوده بينهم، ويكتسب من أسرته القيم، والمفاهيم، وأساليب الحياة.
الاسرة هي الأسلوب الذي اختاره الله للتوالد والتكاثر واستمرار الحياة، بعد أن أعدَّ كِلَا الزوجينِ، وهيَّأهما بحيث يقوم كل منهما بدور إيجابي في تحقيق هذه الغاية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
وقال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72].
وقد تنبه الغرب إلى أهمية الأسرة في بناء المجتمع والأمم والحضارات، واعتبروا هدم الأسرة هدما للحضارة كلها.
يقول أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي:
1- اهدم الأسرة 2- اهدم التعليم 3- أسقط القدوات.
هناك الكثير من الأسر في مجتمعنا وواقعنا تعاني من المشاكل وتشكو من القلق والتوتر وعدم الاستقرار ؛ وهذا ناتج في كثير من الحالات عن عدم مراعاة افراد الاسرة للحقوق والواجبات وعدم التزام أفراد الاسرة بمقومات الأسرة الآمنة السعيدة المستقرة؛ فهناك صفات ومقوّمات حددها الإسلام لتكوين أسرةٍ صالحة وناجحة ومستقرة، ومن أهم هذه الصفات والمُقوّمات:
أولاً: أن تكون العلاقات بين أفراد الأسرة قائمة على أساس الحب والمودة والايجابيّة والتّعاوُن والتّواصل والتقدير والاحترام؛ فالإسلام نهى عن العلاقات السلبيّة والهَدَّامةِ والمفرِّقةِ التي تسبب المشكلات وتؤدي الى الانفصال.
صفات الحب والحنان والعطف والمودة والرحمة هي أساس وقوام الحياة الزوجية والاسرية والهدف الأساس منها. { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فالهدف هو السكينة والعيش باطمئنان وسعادة واستقرار وهذا لا يتحقق الا اذا كانت الحياة الزوجية قائمة على اساس المودة والرحمة.
والنبي (ص) قدم لنا المثل الأعلى في تبادل الحب بينه وبين أزواجه؛ وعلى رأس القائمة كانت زوجته خديجة التي ظل حبها في قلبه طوال حياته؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:” مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ (ص) إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ: أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ. قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا!”
ولنا في رسول الله أسوة وقدوة حسنة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21).
فحينما تقوم الأسرة على الحب والعطف والحنان والاحترام والتقدير؛ فإن السعادة والفرحة تسيطر على جميع أفراد الأسرة رجالا ونساءً وأولادا.
والتقدير والاحترام هما من أهم محفزات افراد الأسرة حيث يدفعهم ذلك للعمل بجد ونشاط في هذه الحياة،ويدفعم للتآلف والتعاون مع بعضهم البعض، والشعور بالتقدير أكثر تحفيزًا لافراد الاسرة من المال والجاه.
والتقدير يعني: ان تنظر دائما إلى الجوانب الإيجابية في الأمور التي تصدر من الزوجة او من افراد الاسرة، وان تركز عليها بدلًا من ان تركز على الجوانب السلبية، فتمدحهم على الايجابيات ووتشجعهم وتثني عليهم بدلا من ان تعيبهم على السلبيات.
التقدير يعني: ان تعامل أفراد العائلة كأفضل أصدقاء تعاشرهم، فتشعرهم بالرفقة والصداقة الحميمة.
التقدير يعني: أن تظهر الحب بصورة يومية بطرق مختلفة وفي مواقف متعددة. ان تظهر مشاعرك وعواطفك واحاسيسك للطرف الاخر ولافراد الاسرة وان تقدر في المقابل مشاعرهم وعواطفهم وسلوكهم واخلاقهم وافعالهم.
التقدير يعني: ان تمدح الإنجازات التي تقوم بها الزوجة او الاولاد وإن كانت قليلة، وان لا تجاوز أي إنجاز من دون إعطائه أهميته.
التقدير يعني ان تحرص دائما على خلق جو إيجابي في المنزل جو من الحب والمودة والسعادة. والاحتفال ما امكن بالمناسبات الخاصة كأعياد الميلاد وعيد الزواج، وتقديم الهدايا المتنوعة التي تنم عن التقدير والاحترام.
ان كل هذه المفردات والصفات اذا سادت داخل الاسرة تجعل العلاقات بين افراد الاسرة علاقات قوية ومتماسكة ومستقرة.
ثانيا: التعاون بين أفراد الأسرة ، فبعض الأسر والعوائل تسودها حالة من المركزية الشديدة، بأن يتحمل ربّ الأسرة كلّ الأمور، أو تقوم المرأة بكلّ المهام، بينما لا تكون لسائر أفراد العائلة أيّ مسؤولية أو دور، بل يتّكلون على الأب في توفير كلّ الاحتياجات، ولو حصل أيّ نقص لا يبادر أحد لتلافيه، ويعتمدون على المرأة في القيام بكلّ الخدمات، مهما تراكمت أو تعطلت، فلا أحد غيرها معنيٌ بالأمر.
وهذا الأسلوب ينتج الإرهاق والعناء لطرف، ويكرّس روح الاتكالية والاعتمادية على الغير في نفوس أعضاء الأسرة، كما يؤدي إلى تعطيل مصالحهم.بينما المفترض ان تسود بدلا من الاتكالية روح التعاون والمشاركة بين افراد الاسرة بحيث يشعر كل فرد من افرادها إنه جزء منها وعضو فيها، وينعكس عليه واقعها، وتتأثر حياته بأوضاعها، فهو معنيٌّ بأمورها وشؤونها كبقية افرادها، وهذا يفرض أفراد الأسرة أن يتعاونوا معًا لإنجاح حياتهم العائلية، وإدارة منزلهم على أفضل وجه.
فالمرأة ينبغي أن تشعر الرجل بانها تعينه في تأمين بعض النفقات حسب إمكاناتها، وخاصة إذا كانت تعمل وتنتج وكان الرجل مضغوطًا من الناحية الاقتصادية، كما ان على الزوجة أن تُحسن تدبير أمور المنزل لخفض المصروفات.
والرجل ينبغي له أن يساعد زوجته في أداء خدمات المنزل المتعارفة، وفي تحمّل مسؤولية التربية والرعاية للأبناء.
وكلٌ يعمل قدر استطاعته؛ الزوج والزوجة والكبير والصغير كل يعمل ويكدح ويكافح بحسب استطاعته من العمل البسيط والمساعدة في المطبخ إلى التعاون في الهم المعيشي خارج البيت وتوفير متطلبات شؤون الحياة .. ولا سيما إذا كان الزوجان يعملان في وظيفة أو مهنة؛ او الاولاد يعملون وينتجون، فان على الجميع ان يقدم ويبذل ويشارك، لأن الحياة تشارك وتعاون وتعاضد ؛ وقد كان النبي(ص) خير نموذج في هذا الجانب ؛ فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في العمل والسعي لتأمين متطلبات الحياة؛ فكان يقوم بوظيف أهله، يغسل ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع الثوب، ويخصف النعل؛ ويعلف بعيره، ويأكل مع الخادم، ويطحن مع زوجته إذا تعبت ويعجن معها، وكان يحمل حاجات البيت من السوق، ويتصرف كما يتصرف سائر الناس والبشر حتى ان المشركين تعجبوا من ذلك وقالوا فيما حكى عنهم القران: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) نعم النبي هو بشر وهو على سمو مقامه كان يمشي في الاسواق وياكل الطعام ويتبضع لعائلته، ليعلمنا المشاركة والتعاون، وكذلك فعل علي بن ابي طالب مع الزهراء(ع) فان من مظاهرالعظمة في بيت علي وفاطمة عليهما السلام والتي تستحق أن تكون قدوة لنا في حياتنا وأُسوة في تعاملنا داخل بيوتنا ، هو التعاون بوئامٍ وإخلاص بين الزوج والزوجة على إدارة شؤون البيت وتقسيم العمل في داخله وخارجه
فقد روي عن الباقر عليه السلام أنّه قال : « إنّ فاطمة عليها السلام ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت ، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : « كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يشاطرها الخدمة في أعمال المنزل الخاصة بها ، فقد جاء عن ابن شاذان أنه دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )على علي عليه السلام فوجده هو وفاطمة عليها السلام يطحنان في الجاروش ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « أيكما أعيى؟ » فقال علي عليه السلام : « فاطمة يا رسول الله » فقال لها : « قومي يابنية » فقامت وجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعها مع علي عليه السلام فواساه في طحن الحبّ .
اليوم بعض الازواج يتعيب مساعدة زوجته على شؤون المنزل ويعتبر ذلك منقصة، وان ذلك ليس من مهامه بل من مختصات الزوجة وواجباتها وهذا خطأ، هو ليس واجبا على الزوجة بل هي تقوم بذلك من موقع حرصها على تدبير الشؤون المنزلية وعلى الرجل ان يشاركها في هذه الروحية ويساعدها على ذلك.
الحياة هي مشاركة وتعاون سواء في نطاق الاسرة او في الوسط العام لآن التعاون كما هو مطلوب بين افراد الاسرة من اجل تحقيق حياة اسرية مستقرة كذلك مطلوب في الوسط العام بين ابناء المجتمع وبين الناس وبين الشركاء في الوطن من اجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني وغير ذلك.
اليوم واكثر من اي وقت مضى المطلوب من اللبنانيين ان يتعاونوا لانقاذ بلدهم في ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي الذي ينعكس سلبا على مختلف شرائح المجتمع اللبناني، وبدلا من التعنت ووضع المزيد من العقبات امام اجتماع الحكومة لا بد من تقديم التنازلات والتفاعل مع المبادرات التي تشكل مدخلا لحل الأزمة القائمة فلا يجوز ان تبقى الحكومة معطلة بسبب العناد والاصرار على خيارات معينة، وان لم يكن بالامكان معالجة الازمة بالتوافق فليتم الاحتكام الى التصويت فانه الحل القانوني الذي يتم اللجوء اليه في مثل هذه الحالات .
المصدر: بريد الموقع