نص الخطبة
يقول الله تعالى وهو يحدثنا عن كيفية خلق السماوات والأرض: [ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها, رفع سمكها فسواها, وأغطش ليلها وأخرج ضحاها, والارض بعد ذلك دحاها, أخرج منها ماءها ومرعاها, والجبال أرساها, متاعاً لكم ولأنعامكم]. النازعات/ 27 ـ 33
معنى دحو الأرض (والارض بعد ذلك دحاها): أي بسطها ومدها وسطحها وهيئها لتصبح صالحة للسكن وللعيش والحياة والعمل والإنتاج.. فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض وبسطها وهيئها وأودع فيها ما يحتاجه الإنسان من موارد لتكون صالحة لحياته وحياة بقية المخلوقات فيها.
وعلى هذا الاساس يكون معنى دحاها في الآية المباركة اي بسطها ومهدها بحيث تصبح صالحة للعيش والحياة، ويقول بعض الكتاب ان معنى ” دحاها ” أي جعلها كالدحية أي ” البيضة ” أي كروية وهو ما يوافق الآراء الفلكية الحديثة عن شكل الأرض ، حيث إن شكل الارض كروي ..
فاذن: كلمة دحاها تعني البسط وتعني أيضا التكوير ، و هي الكلمة العربية الوحيدة التي تشتمل على البسط و التكوير في نفس الوقت ، فتكون اللفظ الوحيد الذي يدل على الأرض المبسوطة والمسطحة في الظاهر والمكورة في الحقيقة والواقع .. وهذا قمة الإحكام في اختيار اللفظ الدقيق وهو دليل إضافي على إعجاز القرآن الكريم وبلاغته.
ويوم دحو الأرض هو يوم الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة ، و هو يوم مبارك و يُستحب فيه الصوم ، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ قَالَ : كُنْتُ مَعَ أَبِي وَ أَنَا غُلَامٌ فَتَعَشَّيْنَا عِنْدَ الرِّضَا ( عليه السَّلام ) لَيْلَةَ خَمْسٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
فَقَالَ لَهُ : ” لَيْلَةُ خَمْسٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وُلِدَ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ ( عليه السَّلام ) ، وَ وُلِدَ فِيهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَ فِيهَا دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ كَمَنْ صَامَ سِتِّينَ شَهْراً
وَ رُوِيَ عَنْ الإمام مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ ( عليه السَّلام ) أَنَّهُ قَالَ : ” فِي خَمْسٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ كَفَّارَةَ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَ هُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ أُنْزِلَ فِيهِ الرَّحْمَةُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى آدَمَ ( عليه السَّلام
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْقَلِ ، قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا أَبُو الْحَسَنِ ـ يَعْنِي الرِّضَا ( عليه السَّلام ) ـ فِي يَوْمِ خَمْسَةٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ، فَقَالَ : ” صُومُوا ، فَإِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِماً قُلْنَا : جُعِلْنَا فِدَاكَ ، أَيُّ يَوْمٍ هُوَ ؟
قَالَ : ” يَوْمٌ نُشِرَتْ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَ دُحِيَتْ فِيهِ الْأَرْضُ ، وَ نُصِبَتْ فِيهِ الْكَعْبَةُ ، وَ هَبَطَ فِيهِ آدَمُ ( عليه السَّلام )
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السَّلام ) قَالَ : ” أَوَّلُ رَحْمَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فِي خَمْسَةٍ وَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ، فَمَنْ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَ قَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، فَلَهُ عِبَادَةُ مِائَةِ سَنَةٍ صَامَ نَهَارَهَا وَ قَامَ لَيْلَهَا. وقد ذكر بعض كتب الأدعية أعمالا وصلوات وزيارات لهذا اليوم .
ويظهر من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) أن أول بقعة يابسة خلقها الله في هذه الأرض هي مكان الكعبة المشرفة، فقد حدد الله بداية تلك البقعة ووضعها في
وسط الأرض، ثم بسط الأرض من جوانب تلك البقعة ونواحيها، فدحاها ووسعها ومدها من تحت الكعبة المشرفة،وانتشرت اليابسة من تحتها حيث كان الماء يغطي الكرة الارضية برمتها، ثم غاض الماء شيئا فشيئا واستقر في المنخفضات، وظهرت اليابسة من تحت الماء، وكانت مكة أول نقطة يابسة ظهرت من تحت الماء.
وقد يقول قائل ان مكة ليست أعلى مكان على الكرة الأرضية في الوقت الحاضر حتى تكون هي اول يابسة ظهرت على الارض؟ لكن واضح ان عدم كون مكة أعلى نقطة على الارض في الوقت الحاضر، لا يتعارض أبدا مع هذا القول، لأن مئات الملايين من السنين تفصلنا اليوم عن ذاك الزمان، وقد حدثت خلال ذلك تغيرات جغرافية بدلت وجه الأرض كلي، فبعض الجبال هبطت إلى أعماق البحار، وبعض أعماق البحار ارتفع فصار جبلا، وهذا ثابت في علم التضاريس الأرضية والجغرافية الطبيعية
، فالكعبة المشرفة اذن هي المركز الذي انبسطت الأرض من بين جوانبها ونواحيها وانتشرت اليابسة انطلاقا منها، فهي مركز الأرض ووسط الأرض ومحورها، وهذا هو معنى دحوها من تحت الكعبة.
فقد روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن وجه الماء حتى صار موجاً، ثم أزبد فصار زبداً واحداً، فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلاً عن زبد، ثم دحا الأرض من تحته، وهو قول الله تعالى: [إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً].
وفي رواية أخرى ذكر الإمام الباقر(ع) البيت العتيق (أي الكعبة المشرفة) فقال: إن الله خلقه قبل الأرض، ثم خلق الأرض من بعده، فدحاها من تحته.
ويقول الإمام الرضا (ع) في سبب وضع البيت العتيق في وسط الأرض: وعلة وضع البيت وسط الأرض انه الموضع الذي من تحته دحيت الأرض.. وهي أول بقعة وضعت في الأرض لأنها الوسط، ليكون الغرض لأهل الشرق والغرب في ذلك سواء.
والله سبحانه الذي خلق الأرض ثم بسطها ومدها لتكون صالحة للسكن والحياة أودع فيها وفي الكون الكثير من الثروات والخيرات والإمكانات والموارد الطبيعية وغير الطبيعية، ووضعها تحت تصرف الإنسان وسخرها في خدمته وفي نفعه ومصلحته.
وقد تحدثت عشرات الآيات القرآنية عن تسخير الله لكل ما في السموات والأرض والكون للإنسان، وعن أن الله خلق هذا الوجود بكل ما فيه من خيرات من أجل الإنسان.
ولذلك جاء التعبير في الآيات تارة بلفظ (سخر لكم) وتارة أخرى بلفظ (خلق لكم).
قال تعالى: [ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة]. لقمان/ 20.
ويقول سبحانه في آية أخرى: [وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره, وسخر لكم الأنهار, وسخر لكم الشمس والقمر دائبين, وسخر لكم الليل والنهار]. ابراهيم/ 33.
ويقول في آية ثالثة: [وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً]. البقرة/ 296.
خلق الله لكم ما في الأرض جميعاً من أجل أن تستفيدوا منه وتستثمروه وتسخروه لمصلحتكم.
والله سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض ودحاها وبسطها من أجلكم, وأودع فيها كل هذه الثروات والخيرات والإمكانات والطاقات والموارد والنعم من أجل تسخيرها واستغلالها واستثمارها في إعمار الأرض, فالمهمة الاساسية للإنسان في هذه الحياة هي مهمة إعمار الأرض واستثمار الخيرات التي أودعها الله فيها وفي الكون.
يقول تعالى: [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب]. هود/61.
ومعنى (فاستعمركم فيها) أي طلب منكم عمارة الأرض, أي أن تعمروها وتبنوها… وإعمار الأرض يكون بنحوين: بنحو معنوي وبنحو مادي.
فالإعمار المعنوي والروحي للأرض: هو أن يعمرها الإنسان بالإيمان والمبادىء والقيم الإلهية والأخلاق وصنع المعروف والإحسان للآخرين والعمل على وحدتهم واستقامتهم وتحقيق مصالحهم.
والإعمار المادي: بأن يعمرها بالزراعة والتجارة والصناعة والتنمية والإبداع والإنتاج والقيام بكل ما ينفع الناس وبكل ما يؤدي الى رقيهم وتقدمهم على كل صعيد.
فالله سبحانه لم يعمر الأرض للإنسان، وإنما فوضه هو أن يعمرها وأن يستغل ما فيها من ثروات وإمكانات من أجل إعمارها.
وهذا تماماً كما لو أن شخصاً أراد أن يبني بناءاً فإنه يأتي بمواد البناء ويطلب من البناء أن يبني له فهو يقول له: هذه الأرض وهذه مواد البناء وهذه أدوات ووسائل التعمير وهذا كل ما تحتاجه من خرائط ومعدات وما عليك إلا أن تقوم ببناء العمارة أو البناية أو المشروع ..
وهذا تماماً هو ما فعله الله الخالق العظيم في الأرض، فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان, وخلق له هذا الكون والأرض, وبسطها وهيئها وأودع فيها خيرات وثروات، وجعلها صالحة للحياة, ثم قال للإنسان أيها الإنسان, اعمر هذه الأرض بما أودعت لك فيها من ثروات وخيرات..
وعندما طلب الله سبحانه من الإنسان إعمار الأرض لم يتركه بلا مقومات بل وفر له أمرين:
الأول: الإمكانات والوسائل التي يستطيع من خلالها القيام بمهمة إعمار الأرض.
والثاني: العقل الذي يستطيع من خلاله الاستفادة من هذه الإمكانات والوسائل.
واليوم المجتمعات الإسلامية والبلدان الإسلامية مهمتها الأساسية هي القيام بإعمار الأرض في إطار المبادئ والقيم والأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
من المؤسف ان المجتمعات والبلدان العربية الإسلامية لا تستفيد بالشكل المناسب من الموارد والطاقات الهائلة والكبيرة التي تمتلكها، بينما نجد الامم الأخرى تستغل كل الثروات الموجودة لديها, ولا تكتفي بذلك بل تنهب ثروات العالم العربي والإسلامي وتأخذ منه المواد الخام ثم تصنعها وتبيعها لنا بأضعاف مضاعفة.
صحيح ان بعض الدول العربية والاسلامية تستفيد من ثرواتها وطاقاتها وتجني أموالاً طائلة كما هو حال السعودية وبعض دول الخليج، لكنها وبدل من أن تصرف هذه الأموال على شعوبها التي تعاني من الفقر والبطالة والتخلف تمنح مئات مليارات الدولارات للولايات المتحدة الامريكية وغيرها من الدول المستكبرة لتحمي وجودها وعروش ملوكها وأمرائها، فتقوم أمريكا باستثمار هذه الأموال الطائلة في معالجة أزماتها الداخلية وتعزيز اقتصادها وتطوير بناها التحتية وايجاد فرص عمل لشعبها ،في الوقت الذي تبقى معظم شعوبنا تعاني تحت وطأت الفقر والبطالة وتردي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية.
اليوم التنمية هي مقياس ومعيار أداء ونجاح الحكومات والدول والأنظمة في العالم, ولذلك ورد عن علي (ع): فضيلة السلطان عمارة البلدان.
المعيار في نجاح وصلاح الحكومات هو بمقدار ما تحققه من إنجازات على صعيد التنمية والإعمار وتحقيق الرفاهية لشعوبها.. فإذا استطاعت أن تحقق تقدماً علمياً واقتصادياً وتنموياً وتكنولوجياً واستفادت من مواردها وثرواتها فهي ناجحة وصالحة أما إذا ضيعت أو أهدرت طاقاتها وثرواتها فهي فاسدة ويحكمها فاسدون؟! .
إذا استطاعت الحكومات والدول أن تستثمر وتستغل الموارد الطبيعية وغير الطبيعية الموجودة فيها لمصلحة شعوبها ورقيها وتقدمها فهي صالحة وفاضلة ويمكن الرهان عليها في تحقيق الإنجازات وإلا فلا.
في لبنان توجد ثروة نفطية في بحرنا يمكن الاستفادة منها في تنمية البلد على كل صعيد، لكن يجب ان نعتمد على قدراتنا في تحقيق ذلك، وان لا نسمح لأميركا وإسرائيل بان يفرضا علينا وعلى بلدنا ارادتهما وشروطهما في هذا الملف وفي ملف ترسيم الحدود.
كذلك فان لبنان يملك ثروة مائية كبيرة ايضا ولكنها تذهب هدرا .. فالناس تدفع أموالاً بشكل متكرر لشراء الماء في الوقت الذي تذهب فيه الثروة المائية هدرا في البحر ، وهذا يعدَ فشلاً ذريعاً للحكومات والعهود المتعاقبة في لبنان، ووجهاً من وجوه الفساد الذي يضرب الدولة ومؤسساتها.
اما ملف النفايات فلا يجوز التباطؤ في معالجة هذا الملف، فقد مرت سنوات دون ان تتمكن الحكومة من ايجاد الحل المناسب لهذه المشكلة، وحان الوقت لتعالجه بالسرعة المطلوبة،فالمطلوب اليوم هو الاسراع في الحل النهائي لملف النفايات، وتحديد أماكن المطامر والمحارق واصدار القرارات اللازمة على هذا الصعيد من قبل الحكومة ودفع الحوافز للبلديات المحيطة حتى تتمكن من القيام بواجباتها .
المصدر: بريد الموقع