لا أحد يعلم إلى أي مدى قد يتطور الصراع الحالي بين ايران والولايات المتحدة الأميركية. الاحتمالات عديدة: مواجهة عسكرية، استمرار في التصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، أو التسوية التي يسبقها بطبيعة الحال مفاوضات طويلة ومعقدة. لكن قراءة سريعة في الأحداث والتصريحات الصادرة عن الطرفين قد ترجح احتمالاً على آخر، أقلّه في المرحلة الحالية.
منذ دخوله رسمياً إلى البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة الأميركية في 20 كانون الثاني/يناير 2017، بدأت تتوضح ملامح السياسة التي يريد الرئيس الجديد انتهاجها تجاه ايران والتي تقاطعت إلى حد كبير مع ما سبق أن صرّح به أثناء حملته الانتخابية. في 8 أيار/مايو حدث ما كان متوقعاً: أعلن ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع ايران، الذي كان من أبرز انجازات سلفه باراك اوباما، لكن الحدث لم يقتصر فقط على “الانسحاب”، القرار أتى مقروناً بـ “فرض أعلى مستوىً من العقوبات الاقتصادية على إيران”: بدأت الحرب.
في خطاب الانسحاب الشهير، الذي رفضته الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق (روسيا، الصين، فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا)، برر ترامب قراره بأن بلاده “لا تستطيع تنفيذ الاتفاق أو العمل به”، مما أظهر أن المشكلة بالنسبة له لا تكمن في مبدأ التفاوض مع ايران بل في مضمون هذا الاتفاق، أي أن الرئيس الأميركي يريد اتفاقاً على مقاسه وعلى مقاس حلفائه (“اسرائيل” وبعض دول الخليج) بالكامل، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو تفصيل اتفاق جديد، تكون فيه ايران “مغلوباً على أمرها”، بعد ارهاق اقتصادها وبيئتها الداخلية تحت وطأة العقوبات.
الأخيرة، خصوصاً تلك التي هدفت إلى تصفير الصادرات النفطية الايرانية، كانت ضاغطة بإقرار الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني، الذي أعلن في الوقت عينه، هو والعديد من قيادات الصف الأول على رأسهم الإمام السيد علي الخامنئي أن “الاستسلام غير مقبول”. بناءً عليه، بدأت ايران بتفعيل اجراءات الصمود و ” إحداث تغييرات جوهرية في البنية الاقتصادية الداخلية”، حسبما أشار المحلل السياسي الايراني عباس خامه يار لصحيفة “الأخبار” اللبنانية، مفسراً ذلك بقيام طهران بـ “تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، مقلصةً اعتماد الموازنة السنوية على النفط إلى نسبة 25 %”، إضافة إلى الرهان على خطط لبيع النفط في السوق الرمادية، وإشراك القطاع الخاص في هذا الملف لكسر هدف واشنطن المتمثل بتصفير الصادرات النفطية، إضافة إلى اعتماد “صندوق التنمية الوطنية الإيرانية” كإحدى أوراق المقاومة الاقتصادية. وقد أسّست إيران هذا الصندوق قبل 10 سنوات، وخصّصت له ما يقارب 34% من عوائد الصادرات النفطية في البلاد، معلنةً أنه سيكون ذخراً ورصيداً للأجيال الإيرانيٍة المقبلة، واستناداً إلى بعض التقديرات، فإن الصندوق يحتوي حالياً على أكثر من 100 مليار دولار أميركي”. وفي السياق، لفت خامه يار إلى أن “آخر عملية سحب للأموال منه كانت قبل 4 أشهر، حينما أوعز السيد خامنئي بصرف 1.5 مليار دولار على تعزيز البنية الدفاعية للبلاد”.
بموازاة قرار الصمود الاقتصادي، حرصت طهران على التصعيد السياسي باتجاه واشنطن وحتى الدول الأوروبية، التي لم تظهر حتى اللحظة التزاماً جدياً بالاتفاق. أولاً، أعلنت بدء الانسحاب تدريجياً من الاتفاق، الأمر الذي ترجمته بسلسلة من الخطوات بلغت ذروتها بالإعلان الاثنين على لسان المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية بهروز كمالوندي بأنها ستتخطى مستوى 300 كغم من اليورانيوم المخصب في غضون 10 أيام. ثانياً، نسفت بعد أكثر من عام ونصف عام على عودة العقوبات خطط واشنطن بجرّها إلى التفاوض بشروط الأخيرة ، قائلة للوسيطين وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي: الأمر لي.
إذاً، لا تسوية أو مفاوضات، أقلّه في المرحلة الحالية، فهل هي مرحلة المواجهة العسكرية؟ بالنسبة لطهران، التي اكدت انها لا تسعى لحرب فإن تصريحات القيادات السياسية والعسكرية أكدت في أكثر من مناسبة الاستعداد لهذا النوع من المواجهة. في المقابل، فإن كل التصريحات الأميركية على الرغم من اتسامها بالعدائية والتلويح بالخيارات الصعبة، إلا أنها التزمت الحذر عند الحديث عن الخيار العسكري بالرغم من شهية بعض الحلفاء المفتوحة على الحرب، إذ يبدو أن واشنطن لا تزال تحسب حساباً لتداعيات هذه المواجهة، في حال حدوثها، وتدرك ربما أنها لن تكون الطرف المسيطر على مآلاتها. في ظل هذه التوازنات، يبدو أن المواجهة الحالية بأبعادها الاقتصادية والسياسية وربما الأمنية مستمرة، نوع من عض الأصابع، أو شد الحبال، المفتوح على خيارات كثيرة سترسمها مسار الأحداث في الفترة المقبلة.
المصدر: موقع المنار