أن تعرف العدو، هيكليته، وضعيته، ظروفه، امكانياته، استعداده وغيرها من المعطيات المادية، لا يعني أنك تستطيع التنبؤ بخياراته وتوجهاته خصوصا في ظل التضليل العميق للنوايا وتعقيدات العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، علاوة على ظهور مستجدات اقتصادية وعسكرية وجيواستراتيجية تنسف قواعد اللعبة المعمول بها بعد أحادية القطب.
منذ بداية طوفان الأقصى وعدد كبير من المحللين ينطلقون من مسلمة أن أميركا لا تريد حربا اقليمية وأن نتنياهو يجرها جراً للمواجهة ضد المحور بأكمله وصولاً للجمهورية الإسلامية في إيران، وأن اللوبي الصهيوني ببضعة ملايين يتحكم بأميركا ويستطيع اضرار خطط ومصالح بترليونات الدولارات، وأن الإدارة الأمريكية تخشى من الضرر الذي ستلحقة همجية العدو بالانتخابات وغيرها الكثير من القضايا المضللة وأنصاف الحقائق.
إلا أن التصعيد الأخير ابتداءً من مجزرتي الثلاثاء والأربعاء واستشهاد القائد “الحاج عبد القادر” جعل عدداً من محللينا يدق الناقوس ويعلن أننا لا نفهم عدوينا الأمريكي والصهيوني جيدا.. وهذه السلسلة هي محاولة لفهم تكوين هذين الكيانين وتطور علاقتهما.
المعرفة والفهم
الفارق الجوهري بين المعرفة والفهم يظهر لدى أي جهة عندما تذهب لما يسمى بتقدير الموقف، حيث لا تكفي المعرفة والاحاطة بكل ما هو ملموس من امكانات واستعداد، لأن التنبؤ بنوايا العدو المستقبلية بحاجة إلى معرفة وفهم عميق لمنظومته الفكرية وطريقة اتخاذ القرار لديه والجهات والشخصيات الفعلية التي تتخذ القرار والاحاطة بإدارته لشبكة مصالحه والصراعات الداخلية بينها، اضافة إلى الاحاطة بالوقائع الميدانية.
وحتى كل هذا لا يكفي ولا يحقق القدرة على تقدير الموقف، الموضوع يحتاج أيضاً إلى شخص لديه قدرة وخبرة عالية على التحليل والربط والاستنتاج وعملية التقدير نفسها وآليتها. هذا الشخص يجب أن يمتلك القدرة على التفكير بعقل العدو ومنظومته القيمية، ليس الأمر ببساطة التقليد السطحي بل يجب أن يتقمصها ويفهم المنظومة الاخلاقية للعدو والتي تمتد بحالة الغرب الجماعي إلى الامبراطورية الرومانية.
يضاف الى ما سبق خبرة التحليل والقدرة على استيعاب تجاوب عقل العدو مع المتغيرات كبرت او صغرت بالايجاب او السلب تدريجية كانت أم مفاجئة، والاهم ان تفهم ما يعنيه هذا المتغير أو ذاك لديه ولمنظوماته، بمعنى أن تأثير المتغير يخضع لعوامل غير مادية عديدة تختلف من متلقي لآخر يجب أخذها بعين الاعتبار.
انظر لنفسك بعين العدو
من المسائل المفصلية المهمة أيضاً معرفة وفهم الذات، وأن تفهم كيف ينظر اليك العدو في ظل الظروف والبيئة الداخلية والاقليمية. وفي حالة جبهة الإسناد اللبنانية قرأ العدو بعناية حرص المقاومة الاسلامية على المدنيين، وسعيه الدؤوب لإلحاق أكبر أضرار ممكنة بكيان العدو بأقل الأثمان على لبنان الدولة والشعب على مدى عام كامل.
كما قلدها في سياسة “تسخين المياه على الضفدع”، فبينما كانت المقاومة تصعد في المدى والأسلحة ونوعية الأهداف بشكل بنائي منهجي يتجاوز رد الفعل، بدأ العدو يصعد بشكل بنوي منهجي منذ اغتيال القائد الشهيد “وسام الطويل”. وحاول العدوان الأمريكي والصهيوني الاستفادة من مسرحية الخلاف والمفاوضات لشراء الوقت ولجم المقاومة لمنعها من استخدام أقصى قوتها حرصاً على مسار التهدئة المزعوم. هنا علينا أن نشرح تصعيد العدو بعقليته البنيوية فهو يهدف لضرب المقاومة هيكلياً من جهة وأن يهدم أسطوريتها من جهة أمام نفسه وأمام جمهورها أيضاً.
يعتقد العدو أنه بضرب المقاومة عموديا وأفقياُ (استهداف شبكي أفقي: حيث أن الشبكة -شبكة الربط- أهم من مجموع الأفراد وبدل أن تصطاد كل سمكة على حدة من الأجدى أن تسمم المياه) وأنه باغتيالاته بالتدرج القيادي للحزب قد ضرب المقاومة ضربة عمودية قاصمة، وأثره النفسي مرفقا بالقصف المكثف للجنوب وموجة النزوح التي لحقته يضع العدو في مكان يظن فيه أنه يستطيع تجفيف البيئة الحاضنة للمقاومة وكسر عزيمة المقاومين، يضاف اليه ضرب المقاومة لوجستياً (1) باستهدافه خط الإمداد السوري على أكثر من مستوى سواء أكان بتركيز الغارات على السلسلة الشرقية (2) أو قطع الطرق والأهم إعادة تفعيل المشروع التكفيري داخل سوريا.
انطلاقاً من هذه المعطيات نفهم أن العدو ذاهب إلى الحرب الشاملة بأقصى إمكاناته لتنفيذ المشروع الأمريكي المتجدد في المنطقة، ونفهم اندفاع العدو العنيف لما يعد قمة الجنون: التوغل البري في لبنان، ولتوضيح هذه المسألة لننظر إلى غزة، لقد تجنب الجيش الصهيوني التوغل برياً في غزة منذ العام 2014 والدرس الأليم الذي تلقاه في الشجاعية، مع ذلك وبعد قصف سجادي للقطاع استمر لأسابيع بدأ عملية التوغل البري التي تكبده الخسائر القاصمة على كل المستويات (الجنود والضباط، والآليات، والمعنويات وسمعة استخباراته وعقل قادته) كلها مرغت يومياً في غزة ومع ذلك فلم ينسحب العدو.
ودون تكرار كل التحليلات الصحيحة حول ساحة لبنان وكم هي أكثر فتكا لجيشهم بمئات المرات، يجب أنه نفهم لماذا يذهبون مسلمين مع سبق الإصرار والترصد إليها؟ الجواب يمكن فهمه من ساحة أوكرانيا، فالامبراطورية مستعدة بالتضحية بآخر صهيوني ومعه جيوش المرتزقة، للحفاظ على مصالحها. قد يستغرب البعض هذا التحليل ولكن فهم طبيعة العلاقة بين الكيانين تؤكد ذلك (هذه السلسلة ستحاول تفسيرها).
فهم العدو الخاطئ لنا يحول انجازاته الاستراتيجية الى ورطات استراتيجية، فهو بعد أن مارس أقصى ما عنده لضرب أسطورة حزب الله وسحقه، تجده يكمل المواجهة والتصعيد بدون أن تهتز له شعره، تلقى الحزب ضربات تقصم ظهر دولاً عظمى ولم يتزعزع لا قيادياً ولا عسكرياً ولا ظهرت بيئته منكسرة أو مترددة برغم كل المعاناة والألم، خلق العدوان الصهيوني على لبنان أسطورة جديدة لحزب الله الجبار بل المعجزة الذي يقوم من تحت الرماد ويقاتل ويقاتل ويقاتل حتى ينتصر.
نافذة الفرص
أيضاً من الأخطاء التي تتكرر لدى المحللين مقولة أن طوفان الأقصى تسبب في انقلاب جذري في العقيدة العسكرية الصهيونية المتحيزة للحروب القصيرة، إلا أن الحقيقة هي أن العدو كان قد عدل هذه القضية من سنوات مع ما سماه بخطة الزخم متعدد الطبقات، حيث اعتبر العدو أن الحروب القصيرة الأجل تأتي بمفعول عكسي حيث تؤمن لحركات المقاومة جرعة تكون مناعة ضد قدرات العدو وتوحشه، تحول بهذه الضخامة في العقيدة القتالية الصهيونية لا يجب أن يمر مرور الكرام، فهو ليس رأي قائد أو طبقة سياسية بل هو تحول في المشروع بأكمله مسبق التصميم تراعى لأجله الخطط والاستعدادات ويتخذ على أعلى المستويات وفي أعمق مراكز القرار الصهيوني والأمريكي.
ان تجهيزات العدو لمواجهة اقليمية شاملة لخلق “شرق أوسط جديد” لم تتوقف منذ حرب تموز، إلا أن طوفان الأقصى حشر الكيان المؤقت في الزاوية كوحش مفترس ولكنه أتى أيضاً بتغير جذري ونافذة فرص لا تفوت بالنسبة له تتمثل بوضع المجتمع الصهيوني تحت الأمر الواقع، واقع الحرب، التهجير والقصف وغيرها من مآسي الحرب التي لا يحتملها مجتمع العدو، لذلك وبما أن ما يخشونه قد حصل وأصبح أمراً واقعا، وأن انتهاء الحرب سيفجر المجتمع الصهيوني من الداخل ولن يستطيع أحد أن يجره لهذا الخيار مجددا بعد انتهاء الحرب، أصبح من اللازم على العدوين الصهيوني والأمريكي، تغيير الشرق الأوسط “الان الان وليس غداً”، فتوجه لفرض حرب وجودية على المحور، مع فارق بين الوحش المحشور في الزاوية والطرف المفروض عليه الحرب الوجودية في “برود العقل وحرارة القلب”: حيث يقاتل المحشور بقلب قاس وعقل مشوش بينما الطرف الأخر يقاتل بعقل بارد وقلب ملتهب.
حرب طويلة بنفس قصير
تتميز الحروب الأمريكية بدورها – من بعد الحرب العالمية الثانية- بعمرها الطويل، وليس لدى العدو الصهيوني معلمٌ أفضل من أميركا في هذا النمط من الحروب، وهنا التعلم اجباري، ففي النهاية يعتمد العدو على الأمريكيين استخباريا وتدريبيا والأهم تسليحياً، ولذلك على نمط حروب عديدة تعد حرب العراق أوضحها في مخيلتنا، فالعدو يبدأ الحرب بأقصى ما لديه من إمكانات وعنف، يبدأ بالضربة القاضية ثم يكمل الحرب وهو يصارع للحفاظ على الإنجاز عالي التكلفة والسقف.
وبهذا المعنى تفقد الحرب الطويلة جدواها، حيث أنه يلقح المقاومة منذ بدايتها ويعطيها مناعة لأقصى قدراته و توحشه، بينما تستمر المقاومة بالتصعيد والتوسع بنفس طويل لا يمكن أن ينقطع كما يحصل اليوم في غزة.
هذه السلسلة تحاول تقديم عرض معمق لهذين الكيانين وما يلحقهما من الغرب الجماعي أضعها للقراء عموماً ولاصحاب الاختصاص للاستفادة منها، وهي تنطلق من أبحاث متصلة بثلاث محاور:
الدولة العميقة الأمريكية (نشأتها، تكوينها، علاقات المصالح وموازين القوى وآلية صنع القرار والنقلة الخطيرة الأخيرة في بنيتها ومرتكزات قوتها الثلاث: البحار، المال والسلاح)
العلاقات الاستعمارية الداخلية (جدلية المركز والأطراف بين الكيانات الاستعمارية من منظور تاريخي ومنظور السوسيولوجيا المكانية)
تطور العلاقات العسكرية بين أمريكا والعدو الصهيوني وأطواره والتبعات الاستراتيجية لهذه الأطوار
1- يقال أن هتلر عندما خطط لغزو ستالينغراد أقر له مستشاروه بأنهم قادرون على احتلالها ولكنهم غير قادرين على الحفاظ عليها، لسبب بسيط: سكك الحديد الألمانية تختلف بعرضها عن تلك الروسية وبالتالي، فإن الامداد البري متعذر، وأما الامداد الجوي فهو مكلف ومتقطع. لهذا تعد القضايا اللوجستية وتأمين خطوط الإمداد المسألة الأكثر احترافية في الحروب، خصوصاً تلك الطويلة منها.
2- هنا يجب أن نلحظ الدور البريطاني سواء أكان يتعلق بأبراج المراقبة على طول الحدود أم الاتفاقية الأمنية المريبة التي عقدت مؤخراً مع الجيش اللبناني.
المصدر: موقع المنار