في عقل العدو 11: تفاؤل العقل – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

في عقل العدو 11: تفاؤل العقل

سرايا القدس - طوفان الاقصى
رند وهبة

في قلب مضيق صغير شمال شبه الجزيرة الكورية وبينما كان القرن الـ 16 يطوي صفحته، وقفت الأقدار تترقب أحداث معركة بين أسطول غزاة جرار وأشلاء أسطول مقاوم لقائد محتضر تلقى الطعنات من القريب قبل العدو خسر كل ما بناه من قدرات بسبب أخطاء وخبث أبناء جلدته ومع كل ذلك استطاع تحقيق النصر المؤزر وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة. هناك انتصارات أسطورية كثيرة في التاريخ استطاع فيها المدافع أن ينتصر بقلة مقاتلة، ولكن لمقاربة لحظتنا اليوم لن نجد أحسن من هذه القصة التاريخية. انها قصة الأدميرال يي صن شن.

كان يفترض بهذا المقال أن يكون الأخير في السلسلة، الا ان تطورات الاحداث وخصوصا خسارة سوريا فرضت تقديمه لاعادة قراءة المشهد من زاوية عقلنا نحن. لا عقل العدو. والعنوان يبدو في غير زمانه ومكانه كما أنه يقلب مقولة غرامشي (تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل) وهذا ما سيتناوله النصف الثاني من هذا المقال.

ما يمكن لعقل رجل واحد أن يفعله

لا يمكننا فهم قصة الانتصار الكوري على الغزو الياباني دون فهم عقل القائد الذي صحح مسار التاريخ، فهو لم يكن من سلالة بحارة ولا حتى عسكريين، بل كان من سلالة بيروقراطية نبيلة، إلا أنه كان مصرا على دخول الجيش لدرجة أنه عندما وقع عن فرسه في الاختبار الأول وكسر ساقه ربطها بقليل من الأغصان وأكمل اختباره، وبعد رسوبه عاد للتمرين وتقدم ونجح بعد أربع سنوات.

يمكن تلخيص المرحلة الأولى من سيرته المهنية بأنه قضاها على الثكنات الحدودية الشمالية النائية والتي عرفت بفسادها وفشلها في صد الغزوات المتكررة، استطاع الرجل في كل مكان حل به من إعادة بناء التحصينات والتسلح وتدريب الجنود وصقل روحهم القتالية ونجح حيث فشل الآخرون ولكن هذا لم يجلب عليه الا المكائد والويلات حيث حوكم لمرتين وحتى بعد تبرئته اعيد للجيش في أدنى الرتب. وبينما كان صن شن يهم بالتقاعد تدخل صديق طفولته الذي أصبح رئيساً للوزراء لإرساله جنوباً وأشرف على صعوده سلم الرتب ليصبح قائد البحرية في إحدى المناطق الجنوبية.

لم يكن هذا من باب المحاباة أو المحسوبية، بل لأن اليابان كانت لسنوات تحاول إجبار كوريا على فتح أراضيها لغزو الصين، وهكذا بدأ صن شن بما يعرفه البناء والتدريب والإعداد وتطوير الاسلحة، ومن أهم ما طوره سفينة تشبه السلحفاة بيضاوية الشكل، محدبة السطح، برؤوس مدببة وتملك مدافع بحرية متطورة على كامل محيطها، بكلمات أخرى تمكن الرجل من ابتكار سفينة لا يمكن محاصرتها وتطلق النيران من كل الاتجاهات ولا يستطيع العدو إنزال جنوده عليها، كادت أن تكون السلاح المثالي الذي لا يهزم.

جاء اليوم المرتقب وبدأ الغزو الياباني إلا أن الأدميرال المسؤول في المنطقة الشمالية غض النظر عن كل التحذيرات وخلق كل المبررات لتجنب المواجهة وتم تدمير 100 قطعة بحرية عسكرية كورية، وخلال شهر واحد فقط وصل الغزو الياباني الى وسط شبه الجزيرة الكورية العاصمة سيول بينما هرب الملك منها.

في هذه الأثناء تحديداً كان الادميرال صن شن قد بدأ أولى معاركه وانتصاراته وفي مسيرته البحرية والتي يمكن اختصارها بالآتي: استدراج العدو الأكثر عددا وعدة لحيثية يتمكن من خلالها صن شن من تحقيق تفوق موضعي على العدو وإدخاله في كمين محكم، الأمر الذي مكنه من تدمير السفن المعادية (في معارك كثيرة دمرها كلها) دون أن يخسر سفينة واحدة.

بدأ صن شن الحرب بـ “25” سفينة فقط وأنهى المرحلة الأولى من صد الغزو وهو يملك 166 سفينة واستطاع في أوقات أن يواجه خمسمائة سفينة يابانية. تجنب الادميرال الأفخاخ واعتمد على استخباراته التي ضمت الفلاحين المتضررين من الغزو الياباني الذي نكل بهم وأحرق قراهم. واستطاع أن يحصر الأسطول الياباني داخل مرفأ بوسان الرئيسي وبذلك منع الامدادات عن الجيش الياباني الذي كان بدوره قد توسع الى كامل البر الكوري قاضيا على كامل جيش كوريا البري (كان قائده أحد العسكريين الذين دبروا لصن شن المكائد ووضعوه تحت التعذيب والمحاكمة) كانت كوريا تواجه الفناء، إلا أن حصار خط الإمداد البحري لليابانيين أضعف الجيش الغازي وأفسح المجال لوصول القوات الصينية الحليفة من البر الشمالي، وبعد فترة وصلت المعارك البرية الى جمود وبدأت المفاوضات واستمر الوضع على هذا الحال لمدة 3 سنين ونصف، استغلها اليابانيون لتحضير غزو جديد أضخم بحيث أبحر أكثر من مئة وأربعين ألف مقاتل للموجة الثانية من الغزو، وبسبب الغدر والخيانة وقليل من الغباء خسر الكوريون أهم مقدراتهم لصد الغزو.

ففي احدى الأيام جاء رجل ياباني لبلاط الملك الكوري يقول انه فر من جيش بلاده ولديه الاحداثيات المناسبة للقضاء على الأسطول الياباني المهول مرة والى الابد، وتحمست القيادة كلها للمواجهة هذه الا صن شن الذي أدرك بأنها فخ محكم ولم يكتف المستشارون باهمال نصيحته بل تم رميه الى المحاكمة كخائن وحوكم بالإعدام، أما الأسطول الذي بناه بشكل اعجازي استلمه الادميرال الشمالي الذي خسر المعركة الاولى ومرة أخرى دمر أسطوله بشكل شبه كامل، تلطفت الأقدار لتنقذ صن شن مرة أخيرة من الإعدام وبالرغم من إعادته هذه المرة إلى منصبه الأصلي إلا أن قرار الحكومة كان بعدم المواجهة، رفض يي وطلب الاذن لمرة أخيرة بأن يقود المعركة بطريقته.

لم تكن المشكلة فقط بأنه لم يتبق تحت امرته الا 12 سفينة ناجية من اسطوله، بل أنها كانت كلها سفن عادية، وهو اليوم يواجه اسطولا يابانيا متحفزا من مئات السفن، لكن اعتماده الرئيسي لم يكن بيوم من الايام على السلاح والعدة على أهميتهما، بل كان عقله وارادة القتال هما سلاحه الحقيقي. فعمل على استدراج الأسطول الياباني كعادته ولكنه هذه المرة لم يكن كأي استدراج سابق، فمن ناحية كان اليابانيون قد تعلموا الدرس وتوقفوا عن اللهاث وراء افخاخ صن شن المحكمة منذ فترة إلا أن كثرة عددهم ادت بهم للاعتداد والغرور والوقوع في الفخ المحكم والقاتل فقد عمد صن شن إلى سحبهم الى مضيق يغير اتجاهه كل 3 ساعات، وكانت هذه الخاصية لا يعرفها الا أهل المنطقة ومجهولة لدى الغزاة، وظف الادميرال هذه الخاصية للجعل كثرة السفن اليابانية وبالا على العدو بدلا أن تكون نقطة قوة فعند انقلاب اتجاه التيار تلاطمت السفن اليابانية ببعضها، وبالرغم من إصابته خلال المعركة استمر في قرع الطبول لدفع أسطوله الصغير للهجوم وطلب من ابنه وابن أخيه أن يأخذوا محله كي لا ينتبه أحد بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة فتنهار معنويات جنوده، وبالفعل كانت هذه المعركة الحاسمة التي أنهت الغزو الياباني ولم يعرف أحد بموت هذا البطل الا بعد انتهائها.

هذا النصر الذي تحقق بعد خسارة كل الإمكانات – التي دفع الغالي والنفيس لبنائها حتى تكون درع كوريا في وجه الغزو وتبخرت – لم يكن ممكنا لولا أن هناك قائداً ذو تصميم وإرادة صلبة لا يكسرها هول العدو وجبروته ولا يوهنها طعن الاخوة وغدرهم، هناك الكثير من العبر من قصة الرجل لمن يحب الاطلاع والتوسع، كما هي قصص كل المقاومين.

العقل زينة

يقال أن الله عندما وزع الأرزاق على الناس لم يرض أحدٌ بقسمته، إلا أن الجميع دون استثناء رضي وسعد بقسمة عقله، ويمكننا القول أن لا مصيبة تعادل مصيبة أن يفقد المرء رشده، إذ أن رشده وعقله هذين هما السبيل الإلزامي للخروج من اية مصيبة.

كما يقال أن فن الحرب يستلزم منك أن تستغل عيب الخصم، وتوظف نقاط ضعفه ضده وتحرمه من القدرة على استخدام نقاط قوته، أما قمة الفن هي تحويل نقاط قوته إلى ضعف، وفي تاريخ هذا الفن سنجد حركات المقاومة متربعة على القمة، إذ أن الضعف يجعل من الذكاء والحنكة والحكمة مساراً اجبارياً لتحقيق النصر بل أن الدافعية تخلقهما وتشحذ عقل الفرد للتفكير بالمستحيل واختلاق الوسائل لتجاوز أعتى المصاعب.

إن وجود هذين العاملين (العقل القيادي وإرادة القتال) هو مدخل أي نصر وخصوصا بالنسبة للمستضعفين ولا يكفي أحدهما دون الآخر، فهناك من تقوده “عقلانيته” الى الهزيمة حتى بدون قتال ولنا في كثير من الدول العربية مثال واضح، وهناك من يملك الارادة ويعجز عن تجاوز اطباق العدو وهنا يجب التمييز بين طبيعتين لدى أي منا يخوض أي نوع من الصراعات، فبداخله سيجد قوتين، قوة تدفعه للقتال ورد الفعل الفوري، وقوة تدفعه للتفكير والتخطيط والوصول للهدف بكل الوسائل، ويقال أن هذا هو الفرق بين التكتيك والاستراتيجيا فالأول قد يمكنك من الفوز بكل المعارك وخسارة الحرب أما الثاني قد يحملك على تحمل خسارة ولو كل المعارك بشكل مدروس والفوز بالحرب.

والاستراتيجيا هي مسألة وعلم واسع وشاسع ولكن ما يهمنا هنا انها هي التي تسمح لعقل القائد بالرؤية الشمولية والمرونة والتخطيط طويل الأمد والتكيف مع المتغيرات، وهنا لن استفيض بقصة مقاتل آخر ولكن كان مياموتو موساشي أحد أشهر مقاتلي الساموراي الذي تغلب على كل خصومه والذين اشتهر كل منهم بسلاح فتاك مميز وهذا بالنهاية تكتيك برغم كل قوته (بالقياس يمكن القول أن العدو يتمسك بتفوقه الجوي والاستخباري مثلا)، بينما غير مياموتو سلاحه واسلوب قتاله كل مرة ليحقق النصر لدرجة أنه خاض المعركة الأخيرة متعمدا باستخدام قطعة خشب فقط وانتصر بضربة واجدة، لان استراتيجيته كانت افقاد الخصم نقطة قوته واستغلال نقاط ضعفه وعليه كام في كل مرة يغير التكتيك وبالتالي الأسلحة. فالاعتماد على سلاح واحد هو تكتيك يستطيع المفكر الاستراتيجي أن يهندس الظروف لافقاده قيمته الاستراتيجية.

عن الخسارة والهزيمة

ما حصل مع العدو الصهيوني عام ألفين في جنوب لبنان، يعد هزيمة مع أنه لم يخسر الا عدة أفراد شهريا ولكنه على مدار عقدين تراكم لديه الفشل والإحباط وعدم القدرة على الحسم حتى قال قائد الأركان أمنون شاحاك أننا لم نترك حجرا في لبنان إلا وقلبناه، أي أن الإحباط قاد عقل قيادة العدو الى فقدان إرادة القتال وبالتالي الهزيمة.

وفيما يخص محصلة الطوفان فإن الكثيرين يخلطون بين الخسارة والهزيمة، لننظر مرة اخرى الى هزيمة العدو وتحرير الجنوب أمام خسائر بشرية تعد طفيفة، مقابل مثال السوفييت الذين دخلوا برلين وأسقطوا النازية بالرغم من تدمير مدنهم وتقديم عشرات ملايين الأرواح للتحرر من العدو النازي. كما أن ارادة القتال لا علاقة لها بالإمكانات والقدرات المادية لديك أو لدى العدو، بل أن الارادة هي التي تخلق الإمكانات كما قال تشي غيفارا عن بداية الثورة الكوبية.

هنا تكمن أهمية الحرب النفسية والحرب الناعمة والحرب الادراكية، فكلها تهدف الى تدمير ارادة القتال لدى الخصم وكما قال مايكل غافلين أحد القادة العسكريين الأمريكيين “لم يقم السلام القرطاجي عندما أبادت روما قرطاجة عن بكرة أبيها بل عندما صار القرطاجيون يقولون عن تدمير قرطاجة ما يقوله الرومان” هذا تأكيد على أن الإبادة لم تكن هي الهزيمة بل كانت الهزيمة هي الهزيمة الفكرية والاستسلام وهذا هو جدار جابوتنسكي الحديدي الذي يريد كي وعي أمة بأكملها من خلاله لأنه يخاف – عن بصيرة – أول ما يخاف إرادة القتال لديها. وهذا ما لم ينساه العدو الصهيوني في حرب ابادته ضد غزة، فهو قال أن الخطوة النهائية هي صنع منظومة تعليمية وقيمية جديدة للأطفال الناجين من غزة.

ولهذا تبدو مقولة الامام علي (ع) “تد في الأرض قدمك” في بداية الوصية لولده الحسن (ع) خالدة، إذ أن كل شيء في علم الحرب يبدأ من الارادة والثبات، ولو كانت إرادة القتال أمراً متعلقاً بالامكانات لما صعد جيل الـ “82” في الوقت الذي هزمت فيه الأمة وهم كانوا مجرد شباب يؤمن بعدالة قضيته ويرفض الإذعان بينما حاربهم كل الكون، ولمن يعرف فلهم اسم عميق الدلالة اذ كانوا يلقبون بجيل الـ “الميراندا” في اشارة لشربهم المياه البرتقالية في أجران الصخر بين الأحراش وذلك لقلة إمكانياتهم وعزلتهم في البدايات.

نعم لقد منينا بضربات مؤلمة وهائلة ولكننا لم نهزم ولم تهزم قيادتنا، لا بل يزيدنا توحش العدو بصيرة باستحالة التعايش الى جانبه بأي شكل أو ترتيب، ومن حسن حظنا أن المقاومة أثبتت قدرتها على كسر ارادة العدو وهي تحت ضغط وضربات عسكرية ومعنوية تهتز لها دول عظمى وذلك بعقول قادتها الذين أخضعوا العدو بينما كانوا يتسلمون مهامهم خلفا لقادة شهداء تحت وطأة الضربات المتتالية، لكل هذا فان التفاؤل هنا ليس تفاؤل الارادة فقط بل هو تفاؤل العقل. ولا بد للعقل والارادة بعد كل ما حصل أن يفعلا فعلهما.

المصدر: موقع المنار