يُقال في ألف باء الفسلفة “إن توضيح الواضحات من أشكل المشكلات”، وكذا يمكن فهم صورة التحولات في جنوب لبنان، والتي نوافق تماماً أنها تحولات ليست منطقية، ويمكن لمن يرغب أن يصفها بالمفاجآت.
بلغةٍ واضحةٍ لا تحتمل التوضيح: لو جاء أحدٌ ما، من مكانٍ ما، في توقيتٍ ما في العام 2000، سواءٌ قبل 25 أيار/مايو أو بعده، ليخبرنا بأنه بعد أقل من 25 عاماً سيصبح في شمال فلسطين المحتلة حزاماً أمنياً، تفرضه المقاومة الإسلامية على كيان الإحتلال، من دون أن يدخل إليه المجاهدون المقاومون من حزب الله، بل بفعل الخوف والرعب والسيطرة النارية…فمن كان منّا ليصدّق؟!!!
ولو فرضنا أن أحداً منّا، كلبنانيين نؤيد محور المقاومة، ولسببٍ ما، قد صدّقنا هذا التنبؤ، وأفصحنا عنه في الإعلام، فهل يمكن أن يُلامَ أحدٌ من أعداء المقاومة وخصومها إن سخر أو استهزأ؟؟
إن كلّ آلات الحساب السياسي التي تحاول استشراف المستقبل، والتي تقوم على مبدأ “فن الممكن”، كانت بكل معادلات الجمع والطرح وضرب الأخماس بالأسداس، ستصل إلى نتيجةٍ أقصاها: “إسرائيل، لن تتخلى عن مشروعها التوسعي، وأن لجنوب لبنان كرّة أخرى في غضون 10 سنوات، وربما لن يقتصر الأمر هذه المرة على حزامٍ أمني جنوب نهر الليطاني.
نحو 160 بلدة لبنانية، تضم نحو 120 ألف مواطن موزعين على الطوائف اللبنانية كافة، في مساحةٍ تتجاوز الألف ومئة كيلو متراً مربعاً، أي نحو 11% من مجمل مساحة لبنان، كانت هذه منطقة “الحزام الأمني” التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي برعايةٍ أممية وتغطيةٍ أميركية منذ الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، وهي الحادثةُ التي كانت سبباً رئيسياً في نشوء المقاومة الإسلامية “حزب الله”.
طبعاً لمن لا يعلم، فإن هذا الاجتياح لم يكن الأول منذ نكبة فلسطين عام 1948، ولكنه الأول الذي وصل إلى العاصمة بيروت. حينها، لم يكن وزير حرب العدو “آرييل شارون” يعلمُ أن عناده وإجرامه في الوصول إلى بيروت سوف يتسببان في ولادة “المقاومة” التي ستكتبُ في المستقبل “قصةً أخرى” مختلفةً كلياً عن قصة دخول لبنان في العصر الإسرائيلي.
“القصة الأخرى” كانت كقصّة موسى وأخيه هارون عليهما السلام. وبعد الكثير من الأحداث، والمواجهات، وجَمْعِ الملأ والسحرة في “أوسلو” و”كامب ديفيد” و “شرم الشيخ”، وتشكيل حزامٍ أمني جنوب نهر الليطاني هدفه حماية شمال فلسطين المحتلة، وتثبيت معادلة الأمن القومي الإسرائيلي في لبنان بقواعدها الأربعة “الإنذار المبكر – الحرب الخاطفة – القتال على أرض الآخرين – الحماية الصارمة” (عقيدة بن غوريون)…جاء أيار/مايو من العام 2000، وحُشر الناس من المدائن كافة، وأُعلن عيد النصر والتحرير بتوقيت المقاومة الإسلامية وجمهورها، وصدق وعد الله تعالى: إن تنصروني فلا غالب لكم.
حينها، عشية 24 أيار/مايو 2000، لم يصّدق أحدٌ أن ما يحصلُ ليس حلماً…تفاجأ الجميع…إنهار الحزام الأمني الحديدي…هرب جيش العملاء منه إلى شمال فلسطين، وهم يهتفون في وجه قادتهم وأسيادهم: “اكحتونا بس بشرف”.
23 عاماً…بلغت القلوب في المنطقة الحناجر نتيجة ممارسات حكومة اليمين المتطرفة. الفلسطينيون في غزة قالوا: البحر أمامنا والعدو خلفنا…إنفلق البحر…حصل الطوفان…غرق كيان العدو ومن معه في غزة…جاءت أساطيل الأميركيين…وإذ، فاجأ حزب الله الجميع، وأعاد في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 استخدام نفس القاعدة التي استخدمها في العام 2000: قتال وفق قاعدة أكبر قدر من الرعب بأقل قدرٍ من الدم، إسناداً لغزة، وإضراماً للنار في طريق الاسرائيليين، فالمؤمن لا يُلدغُ من جُحر شارون مرتين.
8 أشهرٍ من الرعب باستخدام ما يعرفه الإسرائيليون، وما لا يعرفونه، من قدرات قتالية. شيئاً فشيئاً، وقعت المفاجأة من جديد، ولم يصدق أحدٌ أن ما يحصل ليس حلماً.
مجدداً، لا يحتاج هذا المشهد في كريات شمونة بعد طوفان الأقصى 2023 إلى توضيح. أسباب صراخ هذه المرأة المستوطِنة واضحة، ونتائج انهيار عقيدة بن غوريون أوضح، وخريطة انتقال الحزام الأمني من جنوب لبنان إلى شمال فلسطين المحتلة حقيقةٌ حاسمة، ومجدداً، بأقل قدر من الدم.
حسناً إذاً، صدّق الناسُ في أيار/مايو 2024 أن إنشاء حزامٍ أمني في شمال فلسطين المحتلة، وتهجير أكثر من 100 ألف مستوطن من منطقة مساحتها نحو 2000 كيلومتراً مربعاً، أمرٌ يمكن أن يحصل. وعليه، إذا جاء أحدٌ ما…من مكانٍ ما..لسببٍ ما…وأنبأنا اليوم بأن ما تحدّث به الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في حفل تأبين الشهيد الرئيس الإيراني السيد ابراهيم رئيسي ورفاقه عشية الذكرى الرابعة والعشرين للتحرير، من مفاجآت أعدّتها المقاومة الإسلامية جيداً، سيأخذ الخارطة كلّها إلى مكانٍ لا يمكن أن نتخيّله، فهل سنصدّق؟
*تصميم الخرائط: محمد عساف
المصدر: موقع المنار