بقلم د. حسن أحمد حسن
تساؤلات عديدة عريضة ومشروعة تواجه المتابعين والمهتمين بتطور الأحداث وتداعيتها في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم، وغالباً ما يندرج ضمن قائمة تلك التساؤلات ما يعبر عن الحال ونقيضها بآن معاً، فتزداد الرؤية العامة ضبابية، ويفقد البوصلة من يسقط من حساباته أسس التفكير الاستراتيجي ومضامينه الأساسية الكفيلة بفرز الغث من السمين، وتقديم ما قد يساعد على توضيح الصورة المتداخلة بتناقضات لا يمكن إغفالها لمن يود تلمس معالم المستقبل القريب، أو الأيام والأسابيع القليلة القادمة على أقل تقدير، فهل امتداد ألسنة اللهب واتساع دائرة الحرب ضمن السيناريوهات المحتملة والممكنة، أم أن ارتفاع فاتورة التكلفة على جميع الأطراف كفيلة بسحب هكذا سيناريو عن طاولة التشريح المطلوب إجراؤه اليوم قبل الغد؟ وهل يمكن الحديث عن سيناريو بين حالتي الحرب الشاملة والوقف التام لإطلاق النار بتفاهم قابل للتبلور والانتقال من الإطار النظري الصرف إلى الواقع القابل للتبلور على أرض الواقع؟
موضوعياً ووفق منطلقات التحليل الاستراتيجي ومسلماته لا يجوز استبعاد أي خيار مهما كانت نسبة حدوثه متدنية، لأن ظروف الحرب وتداعياتها قد تفرض على هذا الطرف أو ذاك اعتماد خيارات غير مستحبة، وغير مرغوب بها لتكلفتها الباهظة، والتلويح بها أو اعتمادها يفرض على الطرف المقابل التعامل مع سيناريو قد يحمل بعض المفاجأة، وهو أسوأ ما يمكن أن تواجهه مفاصل صنع القرار، فالأمن الوطني للدول وحق الشعوب بالحياة بكرامة لا يحتمل الغفلة قط، ومن المهم قبل التطرق إلى أهم السيناريوهات المحتملة الإشارة إلى بعض العناوين الفرعية والأفكار العامة المتعلقة بالموضوع، ومنها:
• لا تناقض ولا اختلاف جوهري بين المواقف الإسرائيلية والأمريكية، فحكومة نتنياهو وإدارة بايدن كلاهما تنفذ الأجندة التي تقرها ما تسمى “حكومة الظل العالمية” وهي “فوق ماسونية”، وما يتم تسويقه من تعارض وغضب ونفور وانتقادات شكلية وتلويح بتهديدات ليس أكثر من ذر للرماد في العيون، وجزء من الحرب على الوعي لكيّه وضمان حرف الأنظار عن حقيقة الأخطار الكبرى القائمة والمحتملة، أي أن الأمر لا يتعدى كونه توزيعاً للأدوار وإسناداً للمهام وفق إمكانية كل من واشنطن وتل أبيب، وهذه وجهة نظري الشخصية التي قد لا تكون صائبة.
• تدرك أطراف محور المقاومة أن الجبروت العسكري الأمريكي يشكل خطراً حقيقياً وتهديدات جدية ووجودية، ولا أحد يقلل من قدرة واشنطن ومن يدور في فلكها على التدمير ورفع سقوف عدوانيتها في أي ظرف تتيقن فيه أنها قادرة على تحمل تداعيات رفع سقف عدوانيتها المنفلتة من كل عقال، لكن… كل ذلك لا يخيف محور المقاومة، ولا يقلل من قناعته بقدراته الذاتية على إيلام من يعمل سراً وعلانية على وأد لفظ “مقاومة”، لكن الرغبات في واد، والواقع الفعلي في وادٍ آخر.
• لم يكن بإمكان حكومة نتنياهو الاستمرار بعدوانها الوحشي لأكثر من شهر لولا الحضور الأمريكي بالأصالة منذ الأيام الأولى لانطلاقة ملحمة طوفان الأقصى، ولو أن الأمريكي يقدم فعلياً على النأي بالنفس اليوم ليلاً، فإن الصباح التالي سيشهد إعلان إسرائيلي بتوقف الأعمال القتالية، وبالتالي المجرم الأول إدارة بايدن، وحكومة نتنياهو أداة التنفيذ، والشريكة في الإجرام، وليس العكس، وكلاهما موغلة بالإجرام والقتل وسفك دماء الأبرياء حتى الأذنين.
• لا وقف لإطلاق النار، ولا هدنة مؤقتة طويلة كانت أم قصيرة ـــ وفق الأجندة الأمريكية ـــ ما لم تأخذ في أول سلم اهتماماتها ما يناسب مصالح تل أبيب، وهنا مكمن الخطر، إذ يخشى أن يتم استغلال معاناة وحياة مليون ونصف فلسطيني مهجرين في رفح لمصادرة نصر دفع الفلسطينيون في سبيل بلوغه قرابة مئة ألف بين شهيد ومصاب، فضلاً عن تدمير كل معالم الحياة في قطاع غزة، وتحويله إلى بيئة لا تصلح للعيش واستمرارية الحياة.
• قد يضطر اليانكي الأمريكي للموافقة على هدنة مؤقتة تحت عنوان إنساني مع اقتراب شهر رمضان لامتصاص التحول في الرأي العام العالمي، لكن حتى لو تم هذا الأمر، فسيكون بمثابة “وقفة تعبوية” ومقدمة لاستكمال ما يلزم للعودة إلى العدوانية والإفراط في الوحشية والقتل والتدمير، والخيارات المتاحة لتلافي ذلك ضيقة وقليلة، ومن المهم التحذير من مقامرة قد يقدم عليها نتنياهو بعد تجميع أكثر من مليون ونصف فلطيني وحشرهم في رفح بهدف قتل أكبر عدد ممكن منهم، لتسارع أمريكا ـــ بعد تنفيذ الجريمة ــــ وتعلن تدخلها وعدم قبولها بذلك، وتطلب بشكل مباشر من مصر استقبال من يبقى حياً لدوافع “إنسانية”، وقد لا يكون لدى واشنطن مانع في حال تم ذلك من تسويق رواية تسدل الستار على الحياة السياسية لبنيامين نتنياهو بوسائل عدة ومتوفرة، لتأتي بعد حكومة تالية تكمل ما بدأته الحكومة الحالية بوسائل أخرى.
• ما تزال الولايات المتحدة الأمريكية وفق التصنيفات الدولية الرسمية تمثل القوة الأعظم عسكرياً، أي الأقوى بمقاييس القوة الصلبة: الأسلحة والوسائط والانتشار وبخاصة ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل وأسلحة الدقة العالية، لكن الركون إلى مثل هذه الحالة من الهلامية في التوصيف العام غير دقيق، لأن أمريكا ليست كذلك إلا عندما تكون الحرب من بعيد “لاتماسية” ، أما عندما تكون المواجهة مباشرة في الجبهات المفتوحة والميدان، فغالباً ما تُمْنَى أمريكا بهزائم نوعية، ولعل انسحابها المذل من أفغانستان خير شاهد على ذلك، والسر في هذا الضعف الأمريكي يكمن في انخفاض عتبة القدرة على تحمل الخسائر البشرية، وبالتالي ليس نتنياهو أحرص من بايدن على توسيع الحرب، وما يمنع كلاهما من الإقدام على خطوة متهورة تقود إلى حرب شاملة هو الهروب من المواجهة المباشرة في ميدان المعركة عندما تشتعل الحرب، وفي ضوء هذا يمكن فهم مشاركة القاذفات الإستراتيجية B1 في العدوان على سورية والعراق مؤخراً، إذ لا ضرورة لإرسال تلك القاذفات من اليابسة الأمريكية، ولا فائدة نوعية من مشاركتها، لأن بإمكان البنتاغون تنفيذ ما يريد عبر القواعد العسكرية الأمريكية والأساطيل المنتشرة في شتى أنحاء الكون، وبالتالي الرسالة الأهم هي التلويح بالقدرة والجبروت العسكري الأمريكي من بعيد، فضلاً عن اختبار مدى جاهزية تلك القاذفات لتنفيذ ما قد يسند من مهام مستقبلية، ومن حق أطراف محور المقاومة الرد برسالة معاكسة عبر تصعيد الاستهداف المباشر للقواعد الأمريكية في المنطقة، ورفع فاتورة الخسائر البشرية التي لا تستطيع إدارة بايدن تحمل تكلفتها، ولا المسؤولية عنها.
• كل ما ذكر في النقاط السابقة يبقى قابلاً للذوبان والتلاشي طالما قرار محور المقاومة يؤكد بالعلن عدم السماح بالاستفراد بغزة، والاستعداد للذهاب في أسوأ السيناريوهات إذا تبين أن وضع المقاومة الفلسطينية في خطر وجودي، وعندها قد تشتعل المنطقة بكليتها، وسيحدد آنذاك اتجاه ألسنة اللهب رياح محور المقاومة، وليس البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية، ولا أي عامل آخر، وهذا ما تعلمه ـــ علم اليقين ـــ واشنطن وتل أبيب.
السيناريوهات المحتملة:
متعددة هي السيناريوهات المحتملة لما تشهد المنطقة من احتقان واستعصاء مزمن لابد من التعامل معه بفرصه وأخطاره، ويمكن لأي سيناريو محتمل أن يأخذ أشكالاً متعددة من التداعيات التي تقود بدورها إلى سيناريوهات يتم استيلادها إما بشكل ممنهج، أو بشكل تلقائي تفرزه ساحات المواجهة والميدان، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى ثلاثة سيناريوهات ممكنة الحدوث في الأيام والأسابيع القليلة القادمة:
السيناريو الأول:
استمرار الواقع القائم وتخفيض سقف العدوانية الإسرائيلية، فالوحشية التي تحكم أداء حكومة نتنياهو منذ السابع من تشرين الأول 2023م.غير مسبوقة في استهداف الأطفال والنساء وكل مظاهر الحياة في قطاع غزة، وهذا يفسر صوت الرئيس الأمريكي بايدن ووزير خارجيته، والإشارة إلى أن مستوى قتل المدنيين ما يزال مرتفعاً، وكأن البيت الأبيض وكل العاملين في دوائره القذرة تقول لنتنياهو: ” إن قتل مئتي فلسطيني أو أكثر كل يوم يحرك الرأي العام العالمي، فلا بأس من تخفيض عدد الضحايا إلى مئة أو مئة وخمسين فلسطينياً”، كما أن إعلان الجيش الإسرائيلي عن أسابيع يحتاجها لتنفيذ عدوانه على رفح يعني تربيت بايدن على كتف نتنياهو ليتابع مسلسل القتل والفتك والإبادة وسفك الدماء الفلسطينية كما يحلو له، ولا ضير في طلب تخفيف عداد القتلى اليومي الذي لا يلغي الهدف الرئيسي المعتمد من الطرفين والمتمثل بإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين.
السيناريو الثاني:
توسع دائرة الحرب لتصبح حرباً إقليمية، وإمكانية التوسع قائمة وكبيرة، وبخاصة في ظل عناد حكومة نتنياهو، وإصرار حزب الله على فرض قواعد الاشتباك التي تناسبه، والرد على أي عدوان بالمثل، وهنا تبرز المعضلة غير قابلة للحل، أو المستعصية حتى الآن، فتل أبيب وبدعم من واشنطن تتمنى توسيع بيكار دائرة الحرب، ويمنعهما العجز عن التحكم بالنتيجة النهائية، وكذلك العجز عن تحمل التكلفة، وحزب الله بخاصة ومحور المقاومة بعامة يدرك حقيقة قدرات العدو وطاقاته التدميرية، كما أنه يحسن تقدير ما لديه من قدرات ذاتية قابلة للتفعيل، وجميع أطراف المحور المقاوم لا تسعى للحرب، لكنها لا تخشاها ولا تخاف من تداعياتها، لأن عتبة القدرة على تحمل التكلفة مرتفع جداً لدى جميع أقطاب محور المقاومة ولدى جمهور المقاومة، وهذا عامل نوعي لا يمكن إغفاله، مع التذكير بمقولة عسكرية تتضمن: “التحشيد الكبير في أية منطقة قد يؤدي إلى حرب حتى ولو لم تكن الرغبة متوفرة عند الطرفين”، فلا أحد يستطيع التنبؤ بتداعيات أي حدث دراماتيكي غير متوقع، أو غير ملحوظ ضمن السلة المعتمدة من قبل كل طرف من أطراف المواجهة المفتوحة على المجهول بكل ما تعنيه الكلمة.
السيناريو الثالث:
التوصل إلى اتفاق مؤقت يفضي إلى اتفاق طويل الأمد، وقد يأخذ صفة النهائي، وهذا مرهون بإمكانية إحداث اختراق فلسطيني ــــ عربي، ودفع الفصيل الفلسطيني الأكبر “حركة حماس” إلى القبول بما يعرض عليها، مع تقديم ضمانات خادعة أو وهمية يتم التنصل منها لاحقاً، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن جميع الدول العربية التي ترتبط بمعاهدات سلام أو تطبيع مع الكيان المحتل ترغب في ذلك، وقد تكون غالبية الدول الأخرى التي ترتبط بتل أبيب بشكل أو بآخر، أو تسعى للتطبيع معها مهتمة بتمرير مثل هذا السيناريو الخطير، ولا يستبعد ممارسة أشد الضغوط بما في ذلك استخدام العامل التركي وكذلك القطري والمصري لدفع حماس للسير بمثل هذا السيناريو الذي يمهد لتصفية القضية الفلسطينية وشطبها من الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، وهذا ما يجب التحذير منه، والحيلولة دون حدوثه مهما كانت النتائج.
يبقى هناك سيناريو رابع محتمل الحدوث، ويتلخص بمبادرة محور المقاومة، والبدء بتوسيع الحرب إذا ثبت أن التوجه العام لتطور الأحداث وتداعياتها يسير بسرعة باتجاه السيناريو الثالث.
خلاصة:
كل سيناريو من السيناريوهات المذكورة يحتاج إلى دراسة تحليلية مفصلة تأخذ بالحسبان العديد من النقاط والجوانب المهمة، وبخاصة ما يتعلق بعوامل الترجيح وعوامل التهميش، فضلاً عن مراعاة المحددات الأربعة التي تحكم دورة اتخاذ القرار، وهي: الأخطار والفرص، والتكلفة والمردودية، وكل ورقة قوة يستطيع محور المقاومة اليوم مراكمتها يبعد شبح توسع الحرب غداً، والعكس صحيح.