حسن قمبر – إعلامي وصحفي من البحرين
في يومٍ من أيام العام 2007، وأثناء انعقاد قمةٍ عربية في «منتجع شرم الشيخ»، كنت في نقاشٍ مع أحد كُتّاب الأعمدة في صحيفةٍ بحرينيةٍ حول بعض مقالاته «الناريّة» ضد السياسة الخليجية والبحرينية تحديداً، إزاء التطبيع مع الكيان الصهيوني، تزامناً مع هبةٍ شعبيةٍ عربية في ذلك العام ضد هذا التطبيع.. وفجأة.. يرن هاتفه النقال، ليظهر على الشاشة رقمٌ مميزٌ لشخصيةٍ بارزةٍ في السلطة البحرينية.. فأومأ لي صديقي الكاتب بسبباته بالسكوت.. «هُسسس».. كانت مكالمة «قصيرة وخطيرة».. «هَمَس» لي بعدها بكل اعتزاز، وابتسامةٌ عريضة ارتسمت على وجهه: «هذا وزير الخارجية خالد بن أحمد آل خليفة، من شرم الشيخ، نقل لي استياء شخصياتٍ دبلوماسيةٍ رفيعة المستوى من مقالاتي المنتقدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني.. وأنّبني لأني أحرجته أمامهم.. ودعاني في مكالمته لزيارة «مكتبه الوثير» بمبنى الوزارة حين يعود للبحرين بعد هذه القمّة»، وشدّد يُحذّرُني: «لاتخبر أحداً بما سمعت».. غادرت يومها دون استغرابٍ من مكالمة الوزير لصديقنا الكاتب، ودون استغرابٍ من «انزعاجه لانزعاج» أصدقاءه الدبلوماسيين.. انتهى المشهد.
لكني لم أجد تفسيراً لابتسامته العريضة حتى هذه اللحظة؛ ولست متأكداً إن كانت فرحة «لِوَقعِ» كلماته المؤلم على نفوس أصدقاء «خالد»، أم هي سرورٌ من دعوته لمكتب «طاقة القدر»، التي فُتحت له من سقف قاعة «قمّة شرم الشيخ»، ليتسنّمَ منصباً مرموقاً بعد تلك الابتسامة.
نعود لصديقنا «خالد»، وزير الخارجية الأكثر جدلاً عرفه تاريخ الدبلوماسية العربية والخليجية، ومواقفه منذ ذلك الحين، إزاء التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقضايا الأمة العربية والإسلامية، مواقفٌ لا بُد لها إلا وأن تخلق أزماتٍ رقعتها آخذةٌ في الاتساع، لتعكس منهجية تعاطي نظام قبيلة آل خليفة مع هذه الملفات، والتي هي في واقع الأمر ترجمة حقيقية لإذعانها «الأعمى» لما ترسمه وتقرره خرائط الهندسة في «مطابخ قصور الرياض»، أو «المطبخ المُصغّر» لواشنطن في منطقة الخليج. يبقى أن وزارة الخارجية في العُرف الدبلوماسي بمثابة «اللسان الناطق» عن الدولة في أي محفلٍ في المجتمع الدولي، إلا أن هذا اللسان «يُغرّد» أحياناً خارج «سرب الدبلوماسية»، لينثر عاصفة تصريحاتٍ رملية «شاذّة»، من تراب كوكب الصحراء البدوية، «الكوكب الآخر للقبيلة».
لن نستغرب حينما يسطع نجم وزير الخارجية خالد بن أحمد آل خليفة في الأوساط الإعلامية للكيان الصهيوني بعد تصريحاته الأخيرة في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ بثتها «قناة العربية الفضائية» في الـ31 مارس/ آذار 2016، والتي نقلتها صحيفة «جيروسالم بوست» أحد أهم الصحف الاسرائيلية، ووسائل إعلامية أخرى بارزةٍ هناك، واللافت أن مقطع الفيديو المُتداول كان اجتهاداً من «معهد ميمري»، الذي يسعى النظام الحاكم في البحرين جاهداً في إبرام صفقات حملات علاقاتٍ عامةٍ، تضفي مساحيق التجميل على «صورته القبيحة» أمام المجتمع الدولي، بعد انتهاكاته حقوق الإنسان، وحملته الانتقامية من المعارضين السياسيين.
المضحك في تصريحات الوزير في المقابلة أنه «وبكل ثقة يوجّه رسالة لإيران أن الدول الخليجية جادة في مواجهتها ومواجهة أتباعها في المنطقة» -حسب تعبيره – وهي إشارة واضحة لحزب الله اللبناني، ومن يسمع هذه التصريحات يُصدّق أو يعتقد أن الدول الخليجية حققّت إنجازات تاريخية سابقة في مواجهة إيران على مختلف الأصعدة، وهي إنجازات لم تتعدَ أن تكون تصريحاتٍ جوفاء واستفزازية، من وراء العباءة السعودية، لا أكثر..! ثم يؤكد الوزير أن دول الخليج «لن تتردد في الدفاع عن دول ومصالح وشعوب المنطقة أمام الخطر الإيراني الأشد خطراً من اسرائيل»، حسب قوله – مع تطّلعٍ لعلاقات طيبة مع الاثنين، وهذا الجزء الذي جعل «القلب الاسرائيلي» يخفق حبّاً لخالد بن أحمد آل خليفة على ما يبدو.
هنا أسئلةٌ كثيرةٌ تلوح حول تصريحات الوزير القصيرة، سيّما أنها نالت إعجاب الإعلام الاسرائيلي؛ فهل يقصد الوزير مثلاً أن دول الخليج لن تتردد في الدفاع عن «شعوب تنظيم داعش الإرهابي» المنتشر في العراق وسوريا وحدود لبنان، بفضل الدعم الخليجي لاستمرار بقاءه؟ وهل كان يقصد أنه لن يكون هناك تردّد في الدفاع عن مصالح السعودية في تدميرها الشرس لليمن على سبيل المثال؟!
ليس سراً مخفياً على أحد أن «حزب الله» يقاتل العناصر التكفيرية وفي مقدّمتها «تنظيم داعش الإرهابي»، ولا يجد سماحة الأمين العام لحزب الله – السيد حسن نصرالله حرجاً في التصريح بذلك في خطاباته السياسية، وحينما يأتي الحديث عن ذلك، يأتي على هيئة سرد واستعراض «إنجازاتٍ» تفخر بها المقاومة الإسلامية في مواجهة العناصر التكفيرية، وخطرها الذي يهدد الأمة بأسرها؛ فضلاً عن إنجازات النصر التي حققتها المقاومة الإسلامية في لبنان في مواجهة العدوان الصهيوني في جنوب لبنان وفي الأراضي الفلسطينية وفي حرب تموز 2006. هذه الإنجازات «تُزعج» الوزير خالد، وتجعله يكرر ما يكرّرهُ رئيس وزراء الكيان الصهيوني «بنيامين نتانياهو» في أكثر من مناسبة «أن دول الخليج – وفي مقدّمتها السعودية طبعاً، ترى في اسرائيل حليفة لا تُشكل خطراً» – أي كما هو مقتنعٌ في مقابلته الأخيرة مع قناة العربية. ولا بُدَّ من «فتوى شرعيةٍ» سيستشهد بها الوزير في مقابلاته المستقبلية حين يأتي الحديث عن «داعش»، وهي تصريح «الحاخام الإسرائيلي – بن آرتسي»، «أن تنظيم داعش أرسله الرب لحماية اليهود وأرض إسرائيل«. كما هو موقف الوزير المضاد والمتشدّد ضد «الحشد الشعبي» في العراق في قتاله عناصر «تنظيم داعش».
وحينما يُشير الوزير «خالد» لمصالح دول المنطقة، ربما يقصد «الدور القذر» الذي تلعبه الرياض في عدوانها على الشعب اليمني منذ عام بدعمٍ من الولايات المتحدة، كما يؤكد «المحلل السياسي الأمريكي – فيل بتلر» في تقريره الذي نشره موقع «سبوتنيك نيوز» عن هذا الجانب؛ والذي يُلخّص المشهد برمّته. حيث يُشير الكاتب إلى أن السعودية على وشك الإفلاس بعد استنفاذ مخزونها النفطي، وتخفيض الأسعار مؤخراً، واتجاه السعودية للتعثر الاقتصادي؛ ما وضع العائلة السعودية الحاكمة في مأزقٍ سيجعل السعوديون يقومون بثورةٍ في حال اكتشافهم هذا المأزق. وهنا يكمن السرُّ الحقيقي لِكَمِّ العدوان في الموقف السعودي وشقيقاتها الخليجيين تجاه سوريا واليمن وإيران، باللعب على التوترات الطائفية، ومحاولات الرياض لبسط سيطرتها على القدارات النفطية والغاز اليمني، والذي أدركته الولايات المتحدة منذ العام 2008، من خلال «رسالة السفير ستيفن سيش – السرية»، التي نشرها موقع ويكيليكس»، والتي تحتوي على معلوماتٍ عن تواجد احتياطات كبيرة جداً من الغاز في محافظة شبوة ومأرب والجوف. وذلك ما أظهره المسح الجيولوجي الذي أجرته الولايات المتحدة في العام 2002. وبقاء الرياض في «قمة الأسوق النفطية» يصب بالطبع في مصلحة الإدراة الأمريكية، وبقية حلفاءها الخليجيين «وأصدقائهم الصهاينة». وهذا أيضاً ما يُزعج «الوزير خالد» كثيراً إلى درجة الخوف والقلق على مصالح الخليج، بحجّة تدخّل إيران في شؤون المنطقة.
إذن لا بُدَّ لمثل هذه المواقف والتصريحات أن تُعجب أبرز الوسائل الإعلامية الصهيونية، ولا يسعنا إلا تهنئة «خالد» من البحرين بالطريقة المصرية، «مين قدّك يا خالد.. اسرائيل بتحبّك».