يكثر الكلام عن تراجع القراءة في العالم العربي، فالأرقام مذهلة ومخيفة. ومع كل تقرير جديد يصدر حول هذا الموضوع، يظهر مزيد من التراجع. أخيراً، صدر تقرير عن لجنة متابعة النشر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، حدّد معدّل ربع صفحة كتاب كمعدل وسطي يقرأه الفرد في العالم العربي في العام!
وكان قد سبقه تقرير التنمية البشرية الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» عام 2011 ليتحدث عن معدّل وسطي وهو ست دقائق سنوياً للفرد العربي، مقابل 200 ساعة للفرد في أوروبا!! أي ألفي ضعف يا إخوان؟؟
وقبله تقرير اليونسكو الذي وصل إلى نتيجة أن كل 80 قارئاً عربياً يقرأون كتاباً واحداً، بينما يقرأ الفرد في أوروبا 35 كتاباً في السنة!!! واحسبوا الفارق!
ونتساءل عن مدى صدقيّة هذه التقارير، أو دقّتها،؟ قد تبدو هذه الأرقام مهولة، ومخيفة، ومحزنة… وقد يصعب تصديقها! لكن للأسف، أراها كناشر ومتابع أقل من الحقيقة…
إذ من خلال تجربتي أشير إلى ما يأتي:
1- نشرنا أخيراً كتاب العالم الشهير ستيفن هوكينغ «تاريخ موجز للزمان».
وكان هذا العالم الفذّ قد صرف الكثير من الوقت والجهد ليكتب كتاباً شعبياً موجهاً للجمهور، بحيث يمكنه فهم الاكتشافات الحديثة المذهلة حول الكون ونظرتنا إلى الزمان. وتصدَّر الكتاب أرقام المبيعات لمدة 237 أسبوعاً متواصلة بعد صدوره، بحسب «صنداي تايمز»، محطماً كل الأرقام التي سبقته. ووُصف بأنه الكتاب الأكثر مبيعاً في تاريخ النشر في فئته. لكن هذا الكتاب لم يستطع في نسخته العربية أن يبيع سوى 1100 نسخة بعد مرور أكثر من عام على نشره.
2– كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين:
أثار هذا الكتاب من الجدَل ما لم يثره كتاب في مجال الاقتصاد منذ سنوات عديدة، وتُرجم إلى 31 لغة قبل العربية، وفي كل مكان أثار الجدل، وقورن بكتاب ماركس «رأس المال»، وكتاب آدم سميث «ثروة الأمم»… ودفعت «دار التنوير» مبلغاً لم يسبق أن دفعه ناشر عربي لشراء حقوق كتاب بهذا الحجم، ودعي المؤلف لإلقاء محاضرتين في القاهرة ومحاضرة في بيروت… وكُتبت عنه مقالات كثيرة في صحف ومواقع عربية، وباع الملايين… ولكن لم نستطع بعد مرور ستة أشهر على صدوره أن نبيع سوى أقل من 1000 نسخة بالعربية!!
هذه نماذج لأنواع من الكتب: كتاب علمي، وكتاب اقتصاد .. ومع ذلك لم يستطع أيّ منها أن يخترق هذا الانكفاء عن القراءة، الذي بحسب التقارير، كما بحسب التجربة، يتزايد. فلماذا؟
قد يردّ عليّ قارئ بأن هذه الكتب ليست من الثقافة العربية، ويقدّم أرقاماً لكتب عربية باعت كثيراً كمؤلفات أحلام مستغانمي، أو عائض القرني مثلاً؟ فأقول، نعم يحصل ذلك، فقد بعنا من رواية «الطلياني» أكثر من 20000 نسخة! لكنها كتب قليلة جداً، ولو اتسع المجال للدخول في دلالات الكتب التي تبيع أرقاماً في العالم العربي ــ على تواضعها ــ لأدركنا أنها كتب لا تشبه «موجز لتاريخ الزمان» ولا «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» وطبعاً هي ليست كتب نصر حامد أبو زيد ولا محمد أركون ولا عبدالله العروي ولا مالك بن نبي…
(ومن هنا أتوجّه إلى زملائي الناشرين أن يتجرّأوا على إعلان أرقام المبيعات، لنعرف الواقع الفعلي لبيع الكتب).
إذ ما عدا بعض الروايات، فإن العدد الأكبر من الكتب التي تلقى إقبالاً من القراء إنما يحصل ذلك إما لأسباب أيديولوجية، بعيدة عن قيم المعرفة، وإما لشعبويتها. أما البحث في قيمة النتاج الثقافي العربي والمعرفي، فهو أمر يكشفه مدى حضور هذا النتاج في صنع الثقافة والمعرفة في العالم!
ويمكننا بإطلالة سريعة على ما يُترجم إلى لغات أخرى أن ندرك أن هذه الترجمات (ما عدا الروايات) هي ترجمات لكتب التراث الإسلامي موجّهة إلى مسلمين لا يعرفون العربيّة. ولا تأثير لها في الثقافات الأخرى، إن لم تلعب دوراً سلبياً يُظهر المسلمين كمتعصّبين يعيشون في غيتوات فكريّة بعيدة عن المجتمعات التي يعيشون فيها.
وإذا استطاع كتاب ما أن يخترق هذا الانكفاء عن القراءة، ولو على نحو محدود، فإن مؤلفه وناشره يندمان على نجاح الكتاب، لأنه تتم قرصنته وسرقة حقوق منتجيه من دون حسيب ولا رقيب. فدوَلنا، وحتى أخلاقنا، لا تعتبر أن سرقة حقوق التأليف سرقة تستحق العقاب، بل إن عدداً من الدول العربية لم توقّع على اتفاقية حماية حقوق المؤلف، وهي بذلك تمعن في قتل وتدمير صناعة المعرفة، لأنه كيف سيعمل كاتب لسنوات على إنتاج كتاب، أو كيف سيعمل ناشر على إنتاج كتاب جيّد يشتري حقوق نشره، ثم يتعرّض جهد الكاتب والناشر للسرقة… بكل بساطة.
أما لماذا أمّة اِقرأ لا تقرأ؟ فذلك له أسباب كثيرة، سأمرّ على بعضها سريعاً:
1- غياب قيمة المعرفة، وقيَم الإبداع والجمال، وعدم النظر إليها باعتبارها قيَماً إنسانية كبرى تُعبر عن حضارة شعب أو أمّة، لمصلحة عصبيات دينيّة وأيديولوجية وقبليّة، وادّعاءات فارغة عن حماية المجتمع والأمّة تروّج لها أبواق لا تعرف من هذه القيم شيئاً، وسلطات ترى في المعرفة والإبداع خطراً أكبر من خطر داعش وإخوته.
2- لا يزال الكتاب في نظر السلطتين الدينية والسياسية خطراً يجب مواجهته، فتخصّص هذه السلطات ميزانيات لجيش من المراقبين مهمّتهم مراقبة الكتب وتقرير ما تسمح للناس بأن يقرأوه وما يجب منعه عنهم… وهو شكل من الرقابة صار مذموماً ومخجِلاً في أي بلد متحضّر، في حين هو مصدر تخويف للناشر وللكاتب معاً ، حيث يُحاكم الكتّاب ويدخلون السجون في محاكمات يندى لها الجبين.
3- نظام التعليم: لا يحتاج المرء إلى أكثر من أن ينظر إلى أولاده، ليعرف أنّ نظام التعليم مهترئ، وأنه حتى الجامعات الخاصة تخرّج طلابها وفق احتياجات أسواق العمل في الخارج. ذلك يحصل في كل مكان في العالم العربي، لذلك نرى أن أكبر الكليات في الجامعات الشهيرة كلية الـ«بيزنس»، الحياة بيزنس وفلوس!! أما العلم والمعرفة فلبعض الحمقى.. ونتيجة ذلك مضحكة، فقد كنت قبل أسبوعين فقط أجلس مع ابني وعدد من الأصدقاء والأقارب في دبي، وما أكثرهم هناك، وتحدثت معهم عما يمكن أن تختاره ابنتي التي ستذهب إلى الجامعة في العام القادم… وبعد نقاش، قالت قريبة لي: انظر يا عمي مهما يكن الاختصاص لن تكون له قيمة سوى فقط شهادة تحملها لتدخل فيها سوق العمل، وبعدها سترميها وتبدأ مرحلة تخصّصك الفعلي… وضحك كل الحاضرين، وأكثر الذين ضحكوا هم المجلّون في ميادين عملهم… وأكدوا كلام قريبتي! كم محزنٌ هذا لمن هم مثلي يشقون، ويشقون بالفعل، ليدفعوا أقساطاً رهيبة لتعليم أولادهم، لكنهم لا يتعلّمون!
وكان بين الحاضرين ثلاثة مهندسين تخرجوا في الجامعة الأميركية، والثلاثة تركوا الهندسة ويعملون في «الإيفنت» events!
4- شراء المثقفين: مَن من الكتّاب والمثقفين والعلماء والدكاترة و… لم يحلم بأن يكسب حظوة اختياره لوظيفة في دول النفط؟ بالطبع هناك البعض، لكنهم قلّة، قلّة قليلة، ومن لم يذهب إلى هناك فلأن الفرصة لم تأته.
تحت شعار النهوض بالثقافة العربية، يتم تدمير كل مقوّماتها، وإلحاقها بمؤسسات تقوم على شراء كل شيء! الشعار: نحن ندفع أكثر. ندفع أكثر للكتّاب والصحافيين والمترجمين والعقول والناشرين… وهكذا يشتغل الجميع عند مؤسسات تأخذ عملهم وتنشره في مجلّدات فخمة، وبمقابل مجزٍ جداً ــ لكن هذا النتاج لا يصل إلى القارئ!! أما لماذا؟ فهذا بحث آخر!
المصدر: جريدة الاخبار