تجتاح المنطقة العربية وعلى وجه الخصوص سورية ولبنان والعراق واليمن هيستيريا من الضغط الأميركي السياسي والاقتصادي غير المسبوق، وبوتيرة متسارعة وعالية، أدت إلى تعطيل مجمل مسارات الحلول التي كانت متوقعة في المنطقة.
في 11 آذار 2023 حققت الصين اختراقاً تاريخياً لمنطقة النفوذ الأميركي في المنطقة، من خلال الإعلان في بكين، عن اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات وتبادل للسفراء بين طهران والرياض، وذلك بعد قطيعة دامت منذ 2016 وبفعل أميركي.
بعد تلقيه دعوة رسمية من رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد لزيارة الإمارات، لبى الرئيس بشار الأسد الدعوة في 19 آذار 2023 وكانت فاتحة إيجابية تنبئ بعودة العلاقات والتواصل العربي مع سورية إلى مساره الصحيح.
في 19 من شهر أيار كان الحدث التاريخي الذي شهد الإعلان عن عودة سورية إلى الجامعة العربية، ومشاركة الرئيس الأسد بأعمال القمة العربية في دورتها 32 التي انعقدت في جدة السعودية، وذلك بعد تلقيه دعوة رسمية من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
أمام تلك التطورات الإيجابية بالإضافة إلى الإعلان عن وقف إطلاق النار بين السعودية واليمن، ونجاح تبادل الأسرى والبدء بمباحثات جادة بين الطرفين، اعتقدنا بأننا أمام منعطف تاريخي وإيجابي يبشر في انبلاج فجر جديد، يحمل معه عنوان طي الخلافات العربية وفتح آفاق جديدة تعطي أجيالنا الأمل بمستقبل واعد بفتح صفحة جديدة من العلاقات العربية، وبأن التأثير الأميركي على القرار العربي صار بحكم الضعيف.
لكن الأميركي اختار طريق شن الحرب المضادة، من خلال تضييق الخناق الاقتصادي على سورية ولبنان والعراق وتفعيل فرض العقوبات الجائرة من طرف واحد، وبشكل مخالف للقوانين الدولية، وإذا ما أضفنا الزيارات المتتالية للمسؤولين الأميركيين للسعودية وللإمارات العربية المتحدة والتي قادها وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن، واستتبعت بزيارات لكل من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان ومستشار البنتاغون دوغلاس ماكريغور، كلها صبت باتجاه واحد، وهو وقف كل أشكال التعاون والانفتاح على سورية وعلى إيران، وتعطيل كل ما من شأنه الخروج عن الطاعة الأميركية.
لم يعد خافياً أن تلك الزيارات المباشرة لمسؤولين أميركيين للمنطقة، هدفها توجيه تهديدات علنية وسرية للدول العربية، التي اختارت مساراً مستقلاً مؤدياً إلى الخروج من بيت الطاعة الأميركية.
وهنا لا بد من الإشارة بأن زيارة رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني إلى سورية، والإعلان عن تعاون اقتصادي وسياسي وفتح الحدود البرية بين البلدين، لاقت امتعاضاً أميركياً، ترجم برفع سعر الدولار الأميركي إلى 1600 دينار عراقي بين ليلة وضحاها، الأمر الذي شكل ضغطاً أميركياً هائلاً على الحكومة العرقية، هدد بثورة شعبية جديدة من إنتاج أميركا.
تفعيل الضغط الأميركي السياسي والاقتصادي بأقصى من درجاته أدى إلى تجميد كل المسارات الإيجابية في المنطقة، وترجم بتجميد مفاعيل اتفاق بكين بين طهران والرياض، واستتبع بإعلان أميركي بإمكانية تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، إضافة لتجميد ومنع استكمال مسار عودة العلاقات العربية مع سورية، ومنع أي مساعدات عربية عنها بالإضافة إلى منع عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، وتجميد المساعي لوقف الحرب بين اليمن والسعودية، وإذا ما أضفنا الأحداث الأخيرة في المخيمات الفلسطينية في لبنان، والبيانات الأحادية الجانب الصادرة عن بعض سفارات دول الخليج في منتصف ليل مظلم ودون تنسيق مسبق مع الدولة اللبنانية، والقاضي بضرورة مغادرة رعاياها الأراضي اللبنانية، لهو دليل واضح على نجاح أميركا في حربها المستمرة والمعلنة على دولنا، ودليل بأن أميركا لم تزل تمتلك إمكانية التعطيل في المنطقة وبأساليب عدة.
إن زيادة الوجود العسكري الأميركي في مناطق في مياه الخليج وفي شمال شرق سورية، إضافة إلى إعادة هيكلة الميليشيات التي تعمل حرساً للاحتلال الأميركي، وإطلاق خلايا داعش لإعادة نشر العمليات الإرهابية، في سورية وحتى في لبنان، مؤشر واضح بأن أميركا لم تزل تتمتع بذراع تخريبية طويلة قد تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
إن إغلاق بوابات الحدود بين سورية والعراق وقطع التواصل البري بين بغداد دمشق لمنع التواصل الاقتصادي الحيوي بينهما، لهو قرار أميركي صريح، أدى إلى تعطيل إحياء خط كركوك- بانياس، وانضمام سورية إلى مشروع التنمية ضمن مشروع الحزام والطريق الصيني المنشأ.
مما لا شك فيه إننا نمر في زمن صعب مثقل بالضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية والحياتية، رغم امتلاكنا للثروات والإمكانات الهائلة، لم نستثمرها بالطريق الصحيح بل إن معظم تلك المقدرات إما محتلة أو مرتهنة أو منهوبة لمصلحة منظومة الفساد الداخلي والتي تعمل لمصلحة دول تستعمرنا وتناصبنا العداء، وتنفذ أجندتها بواسطة بعض المتمولين من أبناء جلدتنا العربية.
نحن أمام مرحلة جديدة من الحرب تأخذ أشكالاً عديدة، أخطرها الحصار الاقتصادي القسري والمستمر، الهادف إلى إذلال الناس، وامتهان كرامتهم، وتشريدهم وإلى المزيد من تفكك مجتمعنا العربي.
لا يعقل أن نبقى عاجزين عن إيجاد الحلول الناجمة والقارة على تأمين سبل العيش الكريم للمواطن وللمجتمع ولو بالحد الأدنى، كي لا يتسلل اليأس والقنوط إلى أجيالنا، الأمر الذي يفقد شبابنا الإيمان بالانتماء الوطني، وبالصمود والمواجهة دفاعاً عن إنجازات وطنية تاريخية.
نحن بحاجة إلى إدارة جماعية حكيمة، تمتلك القدرة على التفكير من خارج الصندوق، ويمكنها اجتراح الحلول الممكنة، ومعها نستطيع تلمس طريق الحل، لتأمين الخروج الأمن من هذه المحنة العصيبة، للمجتمع وللفرد وللدولة على حد سواء.
بين فساد الداخل والمستعمر الجديد، لم يعد أمامنا من خيارات تبقي هويتنا العربية والوطنية وتحافظ على ثقافتنا وحضارتنا، وتبقي أجيالنا على قيد الحياة بعزة وكرامة، سوى إما الحرب على الفساد والمفسدين في الداخل، وإما شن الحرب على من زرع الفساد في بيتنا وطرده من أرضنا وتحرير ثرواتنا من الاستعمار الأميركي الجديد.
إن لأجيالنا حقاً علينا في توريثهم معاني وحقيقة الانتماء للوطن والدفاع عن هويتنا العربية وعن ثرواتنا ولو كلفنا الاستشهاد، فرسالتنا التي يجب تقديمها لأجيالنا الصاعدة، هي الدفاع عن الوطن وعن تماسك المجتمع وعن حقوقنا المشروعة حتى لو كلفنا بذل الدماء والاستشهاد، فإما أن نعيش بكرامة الإنسان أو نموت واقفين ولن نركع.