خلال عقود من الانكفاء عن العالم ومشاكله المعقدة، انصرفت الصين إلى العمل الدؤوب من أجل تعزيز قدراتها الذاتية، ونجحت في تنفيذ خطط جبارة تحاكي التنمية المستدامة وتعزيز الاقتصاد والاكتفاء الذاتي وتأمين الرعاية الصحية ومحو الأمية والقضاء على آفة الفقر، وصولاً إلى تمتين أواصر المجتمع لمليار وأربعمئة مليون وهو عدد سكان الصين.
وعلى امتداد تلك الفترة، عملت الصين بصمت مطبق وهدوء تام على قاعدة «اعمل بصمت، أخفِ قدراتك، وابتعد عن القيادة»، ورسمت لسياساتها طوقاً عرف بالطوق الرمادي، على قاعدة الحياد الإيجابي والابتعاد عن الغوص في الأزمات، وعدم اتخاذ مواقف قد تلزمها دفع أثمان سياسية واقتصادية هي بغنى عنها، فاعتقد العالم الغربي بأن الصين أضحت أمة متقوقعة وضعيفة لا تهتم إلا بالملفات التي تخصها فقط.
تظهر الصين اليوم بحلّة جديدة مختلفة كلياً عما كانت عليه في الماضي، ونستطيع القول إن الصين قررت مغادرة الدائرة الرمادية والانخراط بوضع أطر النظام العالمي الجديد، فالصين لم تعد عبارة عن السوق المصدر للبضائع فقط، بل أصبحت صاحبة القوة العسكرية الهائلة مؤلفة من جيش قوامه 2,695 مليون عسكري، الأمر الذي يؤهلها لمقارعة التدخل الأميركي في محيطها.
مما لا شك فيه أن الصين قررت كسر طوق الانغلاق وبدأت باقتحام مناطق كانت حكراً على النفوذ الإستراتيجي لأميركا، ومثال ذلك الشرق الأوسط وإفريقيا، فقد نجحت في إبرام اتفاق بين السعودية وإيران، وكذلك اقترحت أخيراً رعاية حل للقضية الفلسطينية على أساس المبادرة العربية 2002، وبذلك تكون الصين قد وجّهت رسائل مهمة سياسية واقتصادية وفي اتجاهات عدة للعالم الجديد، تعبّر في مضمونها عن النية في المساهمة الفاعلة في إنشاء نظام عالمي جديد.
على المقلب الآخر لعبت الولايات المتحدة دوراً أساسياً في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في هيروشيما الشهر الماضي، من أجل اتخاذ قرار يُلزم أعضاء المجموعة بـ«تنويع اقتصاداتها، حيث تُقلّل من اعتمادها على الصين»، بيد أن الرد الصيني كان بالانفتاح على 13 دولة لضمها إلى مجموعة «بريكس» في تقليد لتجربة «أوبيك+»، التي تتحكم اليوم بـ60 بالمئة من إنتاج النفط في العالم، وفي الوقت نفسه كانت الأعين الأميركية تتابع عن كثب وباهتمام نتائج الاجتماع الوزاري لدول مجموعة «بريكس» مع الدول المرشحة للانضمام إلى عضوية المجموعة في كيب تاون بجنوب إفريقيا أيضاً الشهر المنصرم.
من نافل القول إن الولايات المتحدة الأميركية تحاول وبشكل دائم احتواء نهضة الصين الاقتصادية والسياسية، إلا أن نجاح الصين في تشكيل «بريكس+» صعّب على الولايات المتحدة إن لم نقل عطل عملية احتواء الصين أو الحؤول دون مضيِّها قدماً باتجاه عالم جديد متعدد الأقطاب، وهذا النسق الصيني، سيجعل الإدارات الأميركية المتعاقبة أمام معضلة أساسية وتحدٍ كبير مع الصين.
في أميركا ودول الغرب يروجون لمقولة «العالم يرتجف من صحوة المارد الصيني»، لكن الحقيقة الدامغة هي أن العالم المرتجف من صحوة المارد، يتألف من الدول التي تعودت النهب والسطو بالقوة على ثروات وحقوق شعوب العالم الثالث لقرون طويلة، وفي مقدمتها أميركا، لأنها دولة نهضت على أكتاف الاستعمار والهيمنة على معظم مصادر الطاقة في العالم، وأسهمت في قلب أنظمة الحكم المناوئة لها وصادرت ثرواتها واحتكرت كفاءاتها العلمية، وهي من الدول الساعية إلى تجديد النظام الأحادي الاستعماري الاستلابي بشكل أو بآخر، وبهدف منع قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، قائم على العدالة الاجتماعية والتنمية والمنفعة المتبادلة.
ولأن الصين صاحبة سجل ناصع من الجرائم البشرية وخالٍ من المؤامرات لقلب الأنظمة، وبريء من أي استعمار، ولأن الصين لم يسبق لها أن شاركت في نهب ثروات أي دولة في العالم، ولأنها عملت ولم تزل على قاعدة رابح رابح وعلى أساس المشاركة في تحقيق تنمية الشعوب، من هنا يتبين لنا سبب الخوف والرعب السائد في أميركا ودول الغرب، من خروج الصين من الدائرة الرمادية، وبروزها على الساحة الدولية في حلة جديدة.
نقول إن الشعوب الآسيوية وشعوب منطقتنا العربية بل إن الشعوب المستضعفة عموماً، تستبشر خيراً من نهضة المارد الصيني، ومن عودة الصين إلى الساحة الدولية، لأن تلك الشعوب تنظر إلى تجربة الصين نظرة الريادة المنصفة الضامنة لحقوقهم ولثروات بلادهم، وهذا نموذج يحقق المنفعة والمساواة المتبادلة، فإذا كانت الصين قد تمكنت من التخلص من استعمارها وتبعيتها وضعفها وفقرها، وأصبحت أمة تمتلك تكنولوجيات متقدمة ومؤسسات علمية واقتصادية وإدارية عريقة تقدمت فيها على أكثر الدول تقدماً، فمن الطبيعي أن تشكل التجربة الصينية، إلهاماً قوياً لشعوب دول العالم من دون أدنى شك.
نعترف بأن التجربة الغربية سبق لها وألهمت معظم شعوب الدول، وبدورها حاولت الاستفادة والتعلّم منها، وفي معظم الأحيان تغولت شعوب الدول النامية في الاقتباس من الغرب حتى في الممارسات الحياتية، لكن ثبت للعالم أن التجربة الغربية كانت نابعة من الموروثات الاستعمارية والإمبريالية والعنصرية، مما أحكم الطوق وأقفل باب التطور والنمو على البشرية، فتحولت التجربة الغربية إلى غزوات وحروب وتهجير واستيطان ونهب وإفقار وحصار وعقوبات وإجراءات تمييزية، مورست بحق الكثير من الأمم ومنها شعوب منطقتنا العربية، الأمر الذي قادنا إلى تمزيق كل مجتمعاتنا وعلاقتنا وروابطنا التاريخية والمجتمعية والثقافية والحضارية، وأبقاها حسب المفاهيم الاستعمارية البائدة، التي كانت قد غُرست في خرائط بلادنا.
لقد تقسّم العالم بين مؤيد لروسيا ومؤيد لأوكرانيا، ولم تتجرأ أي دولة في العالم لأخذ المبادرة، بوقف الحرب الضروس هناك، إلا أن الصين وبكل ثقة وشجاعة، تقدمت بمبادرة حسن نية لحل الأزمة الروسية الأوكرانية، داعية الأطراف إلى احترام المواثيق الدولية وسيادة كل منهما، لأن الصين تدرك أن أهداف الغرب من الحرب الدائرة هناك لن تقتصر في محاصرة روسيا فقط، بل إن الأهداف الغربية والأميركية الحقيقية، تفتيت روسيا من جديد وذلك للوصول بعدها إلى الصين.
إن طلبات الانضمام إلى دول مجموعة «بريكس» ومنظمة شانغهاي فاقت التوقعات، وكل ذلك يعود إلى ثقة الدول المطلقة بالصين لأنها الراعية الأساس لـ«بريكس» ولـ«شنغهاي»، ولأن الصين تريد بناء تحالفات سياسية اقتصادية ضخمة مفيدة للعالم وللنظام العالمي الجديد القيد الإنشاء، وأيضاً للعب دور المراقب المؤهل لتنفيذ مقررات مجلس الأمن والأمم المتحدة، وأيضاً لسحب ورقة السيطرة الأميركية الأحادية عليها وعلى النظام العالمي.
إن إنشاء بنك دول «بريكس» ومركزه الصين وترأسه ديلما روسيف، هو دليل واضح على أن الصين أصبحت قِبلة لدول العالم، التواق للانفكاك من الهيمنة الأميركية، ومن سطوة البنك وصندوق النقد الدوليين، وأن الصين وروسيا سيقودان العالم الجديد، على قاعدة التنمية والاقتصاد والمنفعة المشتركة بين الشعوب وبنظام عالمي جديد.