عبير الطويل *
يوم العشرين من جمادى الآخرة حسب التقويم القمري ليس يوماً عادياً لدى عموم المسلمين. في هذا اليوم من العام الثامن قبل الهجرة النبوية الشريفة، شعّ بيت خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله بنور مولودةٍ لأبيها الرسول المصطفى وأمها خديجة الكبرى، وحمل في تلك اللحظة أمين الوحي جبرائيل عليه السلام التهنئة من الله عزّ وجل بسورة مباركة يحفظها المسلمون منذ ذاك الزمان عن ظهر قلب: (إنّا أعْطيَناكَ الكوثَر * فصلّ لربّك وانحَرْ * إنّ شانِئَكَ هو الأبْتَرْ).
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل يوم الولادة المباركة، للمولودة الجديدة التي أسماها رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة، ليس فقط عيداً للمسلمين تؤدى فيه الصلوات وتوزّع فيه الأضاحي بقوله تعالى (فصلّ لربّك وانحر) كما في عيدي الفطر والاضحى، بل أيضاً جعَلَ يوم الولادة المبارك هذا انتصاراً مدويّاً على الحرب الإعلامية التي كان عتاةُ قريش يشنّونها على رسول الله الأعظم (ص) حين كانوا – وعلى رأسهم العاص بن وائل – ينعتونه بالأبتر، أي الذي ليس له نسلٌ ولا ذريّة. فجاء الردّ بالوحي ليفضح هذا الظالم المتكبّر (إنّ شانئك هو الأبتر).
هذه الحادثة، تعيدُ إلى الأذهان مشهدَ المعجزة الإلهية التي أنطقت نبي الله عيسى المسيح عليه السلام وهو في المهد حديث الولادة، حين أراد الله تعالى من ولادته المباركة أن يحبط كل الحرب الإعلامية التي شنّها كهنة اليهود الظالمين على السيدة مريم عليها السلام، حين استحقروها بداية لأنها أنثى، ثم اتهموها بأشرف ما تملكه المرأة العفيفة حين رأوها تحمل طفلًا من دون زواج. يقول تعالى: (فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡـٔٗا فَرِيّٗا * يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا * فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا * قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا * وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا * وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا).
وبناءً عليه يُطرح سؤال: لماذ سُميّت فاطمة عليها السلام بسيدة نساء العالمين؟
يقول تعالى: (الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) (1)
ورد عن النبي (ص): “إن نور ابنتي فاطمة من نور الله” (2)، لذا حينما وُلدت في العشرين من جمادى الثانية ورد أن نوراً ظهر في مكة، وأن نوراً ظهر في عالم التجرد الملائكي لم تره الملائكة من قبل، فعلمت أن النور هو نور فاطمة. وفي حديث مشهورٍ آخر أنّ فاطمة سمّيت بالزهراء، لأنّها متى قامت في محرابها يزهر نورها لأهل السماوات، حيث سئل الإمام الصادق عليه السلام: لماذا سمّيت بالزهراء، فقال: “لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض”.
وبتتبع الآثار الشريفة للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، يمكن الاستنتاج بأنها سُميّت بسيدة نساء العالمين لأنها تحلّت بأعلى درجات الكمال على المستويين الظاهري والباطني. لقد امتدح الله تعالى نساءاً في القرآن الكريم، إعتُبرن سيّدات النساء، وهنّ: حواء زوجة آدم عليهما السلام، سارة زوجة النبي ابراهيم عليهما السلام، أم النبي موسى عليهما السلام، آسيا زوجة فرعون عليها السلام، ومريم أم النبي عيسى عليهما السلام. وقد اعُتبرنَ أنهن سيدات النساء لأنهن تميّزن بكمالٍ في جانبٍ ظاهري أو باطني محدد من سيرتهنّ الشريفة. فهل احتوت السيدة الزهراء (ع) كل هذه الكمالات التي تميّزت بها النساء الفاضلات اللاتي تم ذكرهنّ، ما جعلها بالأفضلية سيدة نساء العالمين؟
- على مستوى الظاهر، روى ابن شهر آشوب “في ذكر خصائص النساء في القرآن الكريم” أنه قال: “… والجمال لسارة زوج ابراهيم”. في المقابل، روى الخوارزمي بإسناده عن ابن عباس، قال: “قال رسول الله (ص): “لو كان الحُسنُ شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، إن فاطمة ابنتي خيرُ أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً” (3). وعن عائشة أنها قالت: “كنا نخيطُ، ونغزل، وننظم الإبرة في الليل في ضوء وجه فاطمة (ع)” (4).
- أما في جانب الكمال الباطني، نقارن بين الفاضلات من النساء مع الزهراء (ع). قيل: “الشوق لله تعالى من آسيا”، قال تعالى في ما قالت به السيدة آسيا عندما أمر زوجها فرعون جلاديه بتعذيبها لأنها آمنت بالله: (ربِ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنّة) (5). أما السيدة الزهراء عليها السلام، فهي برغم كلّ العذابات التي واجهها بيت النبوّة من طغاة قريش وعتاة اليهود من حصار ومحاولات اغتيال وتشويه وأذية جسدية ومعنويّة، حتى قال رسول الله (ص): “ما أوذيَ نبيٌ مثلما أوذيت”، فهي لم تطلب الجوار لنفسها، بل الإستغفار لجيرانها وللمؤمنين، حتى بلغت ما لها من الشأن في موقف يوم القيامة من الشفاعة الكبرى، كما في قوله تعالى: “ولا يشفعون إلا لمن ارتضى” (6)، فمن ألقابها أنها الراضية المرضية لهذا السبب.
- ذُكرت السيدة مريم عليها السلام في القرآن: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)(7). في المقابل فإن السيدة الزهراء (ع) جسّدت العبودية بأعلى الدرجات، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: “ما كان في هذه الأمّة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تتورم قدماها” (8). وفي آية: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) (9)، روي أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن والحسين عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام(10). لتبلغ ذروة العبادات المستحبّة في الصدقة والزكاة حتى أنزل تعالى في فاطمة وأهل بيتها عليهم السلام في سورة الإنسان: (وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا)، وهكذا مُنحوا درجة الطهر الإلهي الأسمى في قوله تعالى من سورة الأحزاب: (انما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنكم الرجسَ اهلَ البيتِ و يطهركم تطهيرا).
- وفي الصبر لأم موسى (ع)، قال تعالى: (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين)(11). فإضافة إلى ما تم ذكره سابقاً في معرض ما تعرّض له بيت النبوة من أذى، كانت السيدة فاطمة عليها السلام تحمل على عاتقها – خصوصاً بعد وفاة أمها – مسؤولية رعاية النبوّة ومد والدها النبي بكل أشكال الدعم النفسي والحنان حتى قال فيها رسول الله (ص)، كما أورد العديد من علماء المسلمين في بعض تفسيرهم للحديث الشريف: “فاطمة أمّ أبيها”. ويكفي ما ورد في زيارة الزهراء (ع): “يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة” (12).
- في مقام الإصطفاء، الصفوة لمريم (ع)، وعن النبي (ص) قال: “يا فاطمة، أبشري فإن الله اصطفاك على نساء العالمين وعلى نساء الإسلام وهو خير دين” (13).
- كذلك كانت السيدة مريم (ع) حجّة في قول الله عز وجل: “وجعلنا ابن مريم وأمه آية” (14)، والآية بهذا المعنى أنها حجة على الناس ودليلاً للناس وشاهداً عليهم.
في المقابل، روي عن الإمام الحسن العسكري (ع): “نحن حجج الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجّة عليناً” (15)، فهي الآية الكبرى – وليست فقط آية، بل مفترضة الطاعة على جميع الخلق. لذلك مثّلها الله تعالى بنوره بوصفها بالمشكاة، قال تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة … ويضرب الله الأمثال للناس) (16).
بالنتيجة، هناك توصيتان لإحياء الذكرى، الطريقة الأولى: الإحتفاء وذكر فضائل الزهراء عليها السلام، والإستغراق في شخصيتها مع نسيان الدور، فتصبح الذكرى دون استفادة.
والطريقة الثانية، هي العمل بقول النبي (ص) بأمر من الله تبارك وتعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى) (17)، وهي تتمثل بدعوة الزهراء (ع) إلى حياتنا، أن تزورنا ليس زيارة الجسد، ولكن زيارة الروح والفكر والأخلاق والحركة والجهاد، أن تدخل بيوتنا بروحيتها وخلقها وحركتها في توجيه المجتمع، في الخط الذي يرفع مجتمعنا بالمستوى الذي يقرّبنا من الله تعالى. ومن الملفت أن النبي (ص) أكد على سيادة الزهراء (ع) في الدنيا والآخرة، بقوله (ص): “فاطمة سيدة نساء أهل الجنة” (18).
حريٌ بكل النساء أن يجعلنَ السيدة الزهراء (ع) المقياس والقدوة لمن أرادت أن تبلغ سعادة الدارين.
* باحثة في السيرة الإسلامية
المصادر
(1): سورة النور، الآية 35.
(2): أصول الكافي، ج1، ص445.
(3): مقتل الحسين، ج1، ص6.
(4): فاطمة بهجة قلب المصطفى، ج1، ص61.
(5): سورة التحريم، الآية 11.
(6): سورة الأنبياء، الآية 28.
(7): سورة آل عمران، الآية 43.
(8): البحار، ج34، ص48.
(9): سورة الذاريات، الآية 17.
(10): شواهد التنزيل، ج2، ص268.
(11): سورة القصص، الآية10.
(12): مفاتيح الجنان، ص403.
(13): بحار الأنوار، ج43، ص36.
(14): سورة المؤمنون، الآية 50.
(15): تفسير أطيب البيان، ج13، ص226.
(16): سورة النور، الآية 35.
(17): سوؤة الشورى، الآية 23.
(18): صحيح البخاري، ج15، ص4.