يتوالى فرض قيود عبر العالم في مواجهة انتشار المتحور الجديد “أوميكرون” من فيروس كورونا، الذي اكتشفه علماء من جنوب أفريقيا الشهر الفائت، وأبلغوا عنه على الفور.
على الرغم من أنّ العلماء نبّهوا العالم إلى وجود متحوّر جديد، إلا أنه تمّت “مكافأتهم” على سرعة استجابتهم بحظر سفرٍ من شأنه أن يغرق اقتصاد بلادهم، الذي يعتمد بشكلٍ كبير على السياحة، في المزيد من المشاكل.
ما لبثت منظمة الصحة العالمية أن أعلنت أنّ متحور “أوميكرون” يُصنّف “مثيراً للقلق” حتى سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إغلاق حدودها أمام جنوب أفريقيا، إلى جانب سبعة بلدان أخرى في أفريقيا الجنوبية. قامت معظم الدول الأوروبية بالإضافة إلى كندا وأستراليا بالأمر نفسه مع مجموعة مماثلة من الدول.
كان رد الفعل في جنوب أفريقيا غاضباً. حتى إن البعض لام العلماء أنفسهم، معتبرين أنه كان ينبغي عليهم التزام الصمت عند اكتشاف المتحور الجديد. لقد قدّم هؤلاء العلماء خدمة كبيرة للعالم، لكن على الرغم من ذلك، تلقى عدد من الخبراء الطبيين في جنوب أفريقيا العديد من رسائل كراهية. إنّ المستوى اللافت من تأهب العلماء الأفارقة للوباء هو ما مكّن العالم من الاستجابة بسرعة لهذا التهديد الجديد. ومع ذلك، فقد كان الرد بفرض حظر السفر، ما طرح العديد من علامات الاستفهام حول الإجراء العنصري تجاه القارة السمراء.
المفارقة أنّ الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وعدد من الدول الأوروبية يمثّلون غالبية الدول التي تمّ الإبلاغ عن متغير “أوميكرون” فيها. ومع ذلك، لم يقم الرؤساء في الاتحاد الأوروبي بإغلاق السفر داخل حدود الاتحاد الأوروبي، كما أنّ الولايات المتحدة لم تغلق حدودها أمام أي من المسافرين من أي دولة أخرى تم اكتشاف فيها حالات إصابة بالمتحور الجديد.
تآمر شركات الأدوية
لا يخفى أنّ المعلومات التي جمعها العلماء عن المتحور الجديد لا تزال قليلة نسبياً. كما أنه لا يوجد حتى الآن أي مؤشر على شدة المرض الذي يسببه “أوميكرون”. في جنوب أفريقيا، كانت أعراض الإصابة به خفيفة. يقضي الاحتياط أنه حتى يثبت العكس، يجب التعامل مع هذا المتحور كتهديد. حذّر العلماء لأشهر طويلة من “الحماقة” المتمثلة في ترك نسب كبيرة من سكان العالم دون تلقيح، إذ إنّ نشوء متحورات جديدة أمر لا مفر منه.
يُعد حظر السفر طريقة مهمة لاحتواء انتقال فيروس كورونا وانتشاره، ولكن في هذه الحالة يمكن اعتبار هذا الإجراء مجرد عذر، نظراً لأن المتحور الجديد موجود بالفعل في عدة قارات أخرى.
من الواضح إذاً بأنّ الحظر أمر تمييزي وعنصري. التمييز ضد الدول الأفريقية كان واضحاً في مراحل سابقة خلال هذه الجائحة، حيث تجلى من خلال الوصول غير المتكافئ للقاحات إلى أفريقيا والعلاجات الخاصة بفيروس كورونا. والمعطيات التي تفيد بأن تردد الأفراد في أفريقيا في أخذ لقاحات كورونا، مرده إلى انخفاض معدلات التطعيم في القارة قد لا تكون دقيقة. فالولايات المتحدة، التي تُعدّ واحدة من أكثر البلدان تردداً في تلقي اللقاحات في العالم، ولديها مليارات الجرعات الفائضة، نسبة التطعيم فيها تبلغ أقل من 60%، في حين أنّ بعض البلدان في أفريقيا تصل نسبة التطعيم فيها إلى أقل من 2%، وذلك بسبب نقص الإمدادات.
هذا وتواصل شركة “موديرنا” الأميركية لتصنيع اللقاحات رفض مشاركة تركيبة لقاحها، الأمر الذي يجبر العلماء الأفارقة على إضاعة الوقت والموارد في المختبرات لمحاولة تكرار التركيبة. شركة أميركية أخرى تشارك “موديرنا” خطوتها، وهي “جونسون أند جونسون”، التي أجرت تجارب سريرية للقاحاتها في جنوب أفريقيا وعبأت عشرات الملايين من جرعات اللقاح في تلك الدولة، فقط لتصدّر معظمها إلى دول الغرب، التي تملك المال اللازم لتخزينها. تشبّه العالمة الجنوب أفريقية غليندا غراي هذا الأمر بـ”بلدٍ يصنع الطعام للعالم، ويرى طعامه يتم شحنه إلى أماكن غنية بالموارد بينما يتضور مواطنوه جوعاً”.
“صراع” الولايات المتحدة بين الدراسات العلمية و”الحرية الشخصية”
يشكّل حظر السفر إلى جنوب أفريقيا استهزاء بما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن عندما حاول طمأنة شعبه بالقول إنّ المتحور الجديد “سبب للقلق وليس سبباً للذعر”. لكن هذا هو بالضبط ما فعلته واشنطن والعديد من الحكومات الأخرى فيما يتعلق بأفريقيا. لقد أصيبوا بالذعر.
ولا يمكن أن نغفل عن أنّ المركز العالمي الحالي لوباء كورونا هو الغرب، حيث تُعد الولايات المتحدة وجميع أنحاء أوروبا نقاط ارتكاز لانتشار الوباء، وفقاً لخريطة تتبع “The New York Times” مطلع الشهر الحالي. تضمّ أوروبا حوالي نصف الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، حيث من المتوقع أن يرتفع عدد الوفيات في هذه القارة إلى نحو مليوني حالة وفاة بسبب الوباء بحلول الربيع المقبل. الوضع ليس أفضل في الولايات المتحدة، حيث إنّ نسبة الإصابات فيها لا تزال مرتفعة، إذ إنها لا تزال تسجل ما يقارب 95000 حالة إصابة يومياً.
وبالرغم من هذا كله، تتهم حكومة الولايات المتحدة جنوب أفريقيا بسبب المتحور الجديد، في الوقت الذي تعيش صراعاً بين العلم ونجاح الجناح اليميني في البلاد في تحويل العلم إلى عدو “للحرية الشخصية” في تلقي اللقاحات. وعلى الرغم من توفر اللقاح لدى الولايات المتحدة، لا يزال سكانها ملقحين بنسبة 59% فقط، مما يضعهم في المرتبة 60 على مستوى العالم.
متحور أوميكرون ظهر في هولندا
لا تتوافق قيود حظر السفر الحالية بشكلٍ صحيح مع الأدلة الحالية، التي تؤشر أنّ متحور “أوميكرون” كان على الأرجح موجوداً بالفعل في هولندا قبل اكتشاف أي حالة معروفة في أفريقيا. حيث قال مسؤولون هولنديون منذ أيام إنّ المتحور الجديد كان موجوداً في هولندا في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقاً. فقد تم التعرف عليه في عينتين من اختبارين أخذتا في البلاد في الفترة بين 19 و23 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي قبل الإبلاغ عن اكتشاف المتحور للمرة الأولى في جنوب أفريقيا.
ومع ذلك، كانت ردود الفعل من قبل عشرات الدول تذكّر بما حدث في وقت سابق من الوباء، إذ لم تنجح قيود السفر المفروضة على الصين التي أصدرتها إدارة ترامب في كانون الثاني/ يناير 2020 في وقف انتشار الفيروس بالشكل المطلوب. في الواقع، أظهرت البيانات التي جمعتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن المسافرين من أوروبا كانوا مسؤولين على الأرجح عن إدخال الفيروس إلى مدينة نيويورك قبل الانتشار الواسع في المدينة في ربيع عام 2020. تقييد الرحلات الجوية من الصين لم يفعل شيئاً لمنع الفيروس من الدخول من أجزاء أخرى من العالم، ولكن بالاقتران مع تصوير ترامب العنصري للفيروس على أنه “فيروس الصين” أو “إنفلونزا الكونغ” ، أدت قيود السفر إلى رفع مستوى كراهية الأجانب والمشاعر المعادية لآسيا، والمستمرة حتى يومنا هذا.
ما تشهده أفريقيا إذاً ليس بالأمر الجديد، فقد سبق وأن واجهته الصين مع الإدارة الأميركية السابقة، وهو الأمر الذي ندّد به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي وصفه بأنّه شكل من أشكال “التمييز العنصري” إزاء أفريقيا غير الملقحة بشكل كافٍ، بسبب التوزيع غير العادل للقاحات وفق تقارير سابقة لمنظمة الصحة العالمية.
المصدر: الميادين