بعد سنوات من الصراع المتشابك بين الولايات المتحدة الاميركية والمانيا الاتحادية بشأن خط “السيل الشمالي – 2″، المخصص لنقل الغاز الروسي الى المانيا عبر بحر البلطيق ، اضطرت الولايات المتحدة للخضوع، مع اصرار المانيا على تنفيذ ما تراه مصلحة شعبها ، ان كان من حيث مصدر شراء الغاز، او بشأن سعر الكلفة .
لم تكن المانيا التي كانت في المقدمة ، وحدها في مواجهة الولايات المتحدة ، بل كانت العديد من الدول الاوروبية تقف خلفها خوفا من واشنطن التي تريد بيع اوروبا من الغاز الاميركي ، بتكاليف اعلى بكثير مما تعرضه روسيا ، فضلا عن قرب المسافة بين البلدين ، كما ان البرلمان الاوروبي الذي اصبح اقرب الى موظف في الادارة الاميركية، اصدر قرارا يمنع بموجبه تشغيل “السيل الشمالي”، محاكيا بذلك ارادة واشنطن، التي ترى انه سيزيد من نفوذ روسيا في اوروبا، اقتصاديا وسياسيا ، فضلا عن انه سيحرم اوكرانيا الموالية لاميركا مداخيل من مرور الغاز الروسي عبر اراضيها الى اوروبا.
لقد اعلن الرئيس الاميركي جو بايدن كسلفه دونالد ترامب رفضه لمشروع السيل الشمالي الذي اقترب من لحظة التشغيل ، وفرضت الادارة الاميركية عقوبات على الشركات التي كانت تعمل في مده تحت سطح البحر ، وقد هربت بعض الشركات خوفا من التهديدات الاميركية ، رغم ان التسريع في انشاء خط نقل الغاز يسرع في تدفئة الدول الاوروبية وشعوبها التي تنتظر شتاء قارسا ، وهذا الامر لعب الدور الاكبر في تحدي المانيا للارادة الاميركية ، والتصدي للضغوط الاميركية ، لان واشنطن وضعت الاوربيين بين خيارين: اما الخضوع لمشيئتها ، واما السير الى الموت صقيعا ما لم ينته العمل في “السيل الشمالي”، لتوفير طاقة إضافية للاستعداد لفصل الشتاء المقبل.
بغض النظر عن سلوك الحكومات الاوروبية في كثير من القضايا ، ولا سيما تلك التي تتعلق بمنطقتنا وشعوبها ، فهي لم تلنزم بقرار البرلمان الاوروبي ، وهو غير ملزم باي حال ، ورفضت الخضوع للاملاءات الاميركية التي رأت انها لا تناسب شعوبها ، الامر الذي اضطر واشنطن وبشخص جو بايدن للاعلان بانه من غير الممكن وقف مشروع السيل الشمالي الذي اكتمل بناؤه بنسبة 99 بالمئة. ويتوقع ان ينتهي العمل كليا نهاية آب المقبل بعد 3 سنوات من العراقيل الاميركية .
انه الفرق الكبير بين من ينفذ تعليمات واشنطن والخضوع لارادتها بلا خجل او وجل، ضد مصالح البلد وشعبه وحتى لو كان مواليا لواشنطن، وبين من يرفض تنكيس علم بلاده مقابل ابتسامة رضا ترسمها الولايات المتحدة على الوجوه الصفر، مصحوبة بتبرير اعلامي لا يقارب الخجل بشيء رغم ان مرتكب الفعل يخجل في قرارة نفسه من دناءة ما ارتكب ، فيعمد الى مهاجمة خصمه ، او منافسه على سلوكيات متوهمة ، دون ان يقارب القضية – الفعل المرتكب -على الطريقة الاميركية – المشتقة من الغوبلزية.
لقد تخوفت اميركا من رد فعل الماني ، يعم اوروبا لاحقا ، اذا بقيت على قرار منعها تشغيل السيل الشمالي ، ورات ان الحل الانسب اعادة احتواء المانيا ، ولو حصلت خسائر اقتصادية وسياسية لصالح روسيا ، فخسارة القليل افضل من خسارة كلية، خصوصا بعد ترميم حلف الناتو العدواني ، في ضوء الحديث عن جيش اوروبي فقط . وهذا الامر دفع الخارجية الاميركية للاعلان ان العقوبات المتعلقة بمشروع السيل الشمالي بلا جدوى ، فيما برر بايدن عدم فعالية العقوبات على روسيا بهذا الشأن انها قضية معقدة، بينما روج الاعلام الاميركي أن الولايات المتحدة وألمانيا توصلتا لاتفاق حول خط أنابيب الغاز الروسي “السيل الشمالي 2” وان المانيا وافقت بموجب الاتفاق مع الولايات المتحدة على الاستثمار في “البنية التحتية للتكنولوجيا الخضراء” في أوكرانيا، على أن تنهي الولايات المتحدة جهودها لعرقلة خط الأنابيب”. ، وان الرئيس الروسي مضطر لتقبل القرار الاميركي ،في محاولة تمظهر بان الولايات المتحدة فازت في الكباش المتواصل منذ 3 سنوات بينما الواقع يظهر ان بوتين لوى ذراع اميركا في مشروع السيل الشمالي الذي تبلغ الطاقة الاجمالية لضخ الغاز عبره، 55 مليار مكعب سنويا من الساحل الروسي عبر البلطيق الى المانيا .
لقد وصف السناتور الجمهوري المؤثر تيد كروز الصفقة بأنها “انتصار بوتين لأجيال قادمة وكارثة للولايات المتحدة وحلفائها”. وهذا التوصيف يدل على ان الدينامية السياسية التي تريدها واشنطن قدرا للدول والشعوب الى زوال ، وقد فشلت الولايات المتحدة في اخضاع المانيا المحاصرة بالقرارات منذ الحرب العالمية الثانية ، وقد منحت ألمانيا، في إصرارها في الدفاع عن مصالحها الوطنية لدرجة أنها أنقذت المشروع درسا في امكانية التمرد على الاخضاع الاميركي الصلف، كما أظهرت روسيا أنها مؤهلة للعب مديد في تنفيذ المشاريع الاقتصادية واسعة النطاق التي تغير التحالفات السياسية في أوروبا والعالم.
بكل الاحوال فانه باستثناء مؤيدي بايدن، فان الشريحة الاميركية ، ومن ضمنها مجموعة في صنع القرار غاضبة من الصفقة بين الرئيس الأمريكي والمستشارة الألمانية بشأن خط أنابيب الغاز الروسي “السيل الشمالي-2”.وترى تلك الشريحة ان بايدن ارتكب خطأ بالتخلي عن العقوبات المفروضة على روسيا. حتى إن بعض وسائل الإعلام الموالية لتلك الشريحة تتحدث عن مطالبات بعزل بايدن وسط هستيريا معادية للروس، رغم ان المسألة لا تتعلق بروسيا، إنما بألمانيا. بينما الستار الذي تستظله ادارة بايدن يكمن بان المقصود، هو الحفاظ على وحدة الغرب، الذي تقوم عليه القوة الجيوسياسية الأمريكية جزئيا. ومن أجل الحفاظ عليها، لا عيب في الموافقة على شيء يكاد يكون من المستحيل منعه، أي “السيل الشمالي-2”.
الموقع غير مسؤول عن النص وهو يعبر عن وجهة نظر كاتبه
المصدر: خاص