لا أعرف تماماً إلى حدّ يمكن ان يصل الصحفي أثناء ممارسته عملة بكل صدق، إلى أي حد يفقد إحساسه بالخطر، ربما اللاحدود تحيط بهاجس إيصال الرسالة، مهما كلفه هذا من أثمان ومر من أزمان.
في عام 2011 تحديدا في ذكرى نكسة الخامس من حزيران 1967، أي بعد عشرين يوماً من ذكرى نكبة 15 أيار/ مايو 1948، كنتُ على خط الحدود المصطنعة من كيان العدو الصهيوني، بين أخوة لي في القضية، آلاف الشبان جاؤوا من مخيماتهم، رموا خلف ظهورهم أحمال اللجوء، وتدرّعوا بإصرارهم على العودة لديارهم، هناك حيث ولد آباء وأجداد لهم – أنا شخصياً أبي ولد هناك في قرية جميلة تقبع على قمم الجليل الأعلى، مزهوة بخضارها وكأنها قطعة من جنان الله على الأرض، هكذا أراها من الصور التي وصلتنا من هناك..
هؤلاء الشبان وقفو جنباً إلى جنب مع الفتيات، كل منهم يرتدي ما يدل على رمزية القضية، وحّدوا العلم، منتفضين على حدودٍ وضعها المحتل، ذلك المحتل حاول مراراً ردعنا ومنع تقدم الجموع الثائرة بغضب، وأقول “ردْعنا” لأنني كنت مشاركاً بكل شرف وشغف، وبكل ما في قلبي من إحساس، لم أسأل عن أي شيء تركته خلفي حينها، كان همي الوحيد المشاركة الهادفة ، الوصول إلى فلسطين وتوثيق أهمية ذلك اليوم كان هاجسي، أخذت كاميراتي و ذهبت مع من ذهبوا، حاولت رصد كل شيء على جبهتين تفصلهما جغرافيّاً مسافة عدة كيلومترات، وتوحّدها قلوب لم تكن تعرف في ذلك الحين إلا فلسطين وطناً مغتصباً ولا بد من تحريره.
أنا من ضمن هؤلاء لا أعرف ماذا كانت تعني صرخة الرصاص الاسرائيلي الغادر من خلف متاريس الخوف المشيدة بأكياس ودُشَم يختبئ خلفها جنود مدججون، أقلّ أسلحتهم قناصة، وخوف يمزق وهم الفكرة في رؤوسهم عن ان فلسطين هي أرضهم الميعادية، فراحوا يجابهوننا بكل جنون مع كؤوس رأيتها على متاريسهم في محاولة للتهدئة من روع الخوف في قلوبهم الاسرائيلية، يحاولون وضع الغشاوة على على عيوننا بالقنابل الدخانية المحملة بغاز السارين حينها، من المؤكد كي لا نراهم فنرجمهم بكل ما أوتينا من حب الوطن المسلوب، قال لي أحد الأطباء عندما عانيت من مضاعفات بعد تلك المجابهة، “عديدة الحالات التي عانت من غاز السارين في القنابل الدخانية”، نعم كان كل هذا لِما رآه الاسرائيلي من قلوب لم تعرف الخوف وهي آتية ليس لتطالب؛ إنما لتسترد حقاً لها، و شبان ليس لديهم سلاح سوى الإيمان بالحق والقضية، قضية عادلة وحق بالعودة إلى الديار التي أُخرج منها الآباء والاجداد بكل قسوة، وفيهم امل عودتنا الى وطننا فلسطين وكيف سنبني مدننا وقرانا المهدمة طيلة سنوات الاحتلال.
وأعود من ذلك التاريخ عشرين يوماً إلى الوراء أي ذكرى النكبة المصدف لهذا التاريخ، كانت أولى المحاولات، نزلنا في الوادي المحرم بين بلدتي عين التينة وهي البلدة السورية الحرة المطلة على احتلال مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، وهنا ترددت في الأذهان خرافة غولدمائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني منذ حوالي خمسين عاماً حين قالت “الكبار يموتون والصغار ينسون”، نعم مات كثير من الكبار على عتبات منازلهم في خيمات اللجوء وهم ينتظرون العودة، لكنهم أورثوا الصغار أمراً راح يتناقل مع الأجيال المتلاحقة، وهو حق العودة إلى فلسطين الحق العصي على النسيان، ولا أنسى الحاج الكبير بالعمر المدعو بـ “الزنغري” نسبة لقريته في فلسطين، أتى يومها حاملاً “الكواشين” وهي كلمة فلسطينية تعني أوراق الملكية، ومفتاح بيته القديم، كان دافعاً اكبر للشباب، و هُم الذين لم يعرفوا همّا في حياتهم اكثر من حلم العودة وتحقيقه.
رغم كل ما تعرض له المنتفضون الفلسطينيون على الحدود مع الأراضي المحتلة في الجولان والتي هي الطريق الوحيد إلى فلسطين الوطن المغتصب من أهله، إلا أنه لم يكسر من إرادتهم ولا من عزمهم، كان الجرحى بالمئات والكثير من الإصابات كانت بقصد العطب، أي أن الجندي الاسرائيلي يصوب القناصة برصاصها المتفجر إلى الفخذ أو الورك أو الساق ليحدث عطباً جسدياً لدى الفلسطينيين ويجعلها علامة رادعة لغيره، إلا ان كل هذا كان يزيد أهل الحق تمسكاً بحقهم، بالرغم من تعمّد الصهاينة قتل عدد منا، اصابات مباشرة للرأس أو القلب، فالجراح لم تردع الشجعان أهل الحق، و جاء ما لم يتمناه الاسرائيلي، فالشهادة على حدود الوطن زادتنا إيماناً بالنصر. كانت ضربات الصهاينة لنا حينها ما هي إلا ضربة الجبان الخائف من شبان عزّل، فخوفهم استدعى أن تكون الإصابات بالغةً جداً حتى في الأعداد.
لا انسى صرخة الجندي العبري حين رأيته وذهبت لالتقاط صورة لهم وتوثيق ملامح خوفهم عن مسافة لا تصل إلى 50 متراً وربما أقل، كان يصرخ من خلف متراسه وقناصته تستند على كتفة وكأنها ترتجف في يديه، أطلق نحوي صرخة إنذار بلغة عربية مشوهة “صخافة إخجع”، كم كانت صرخاته غير مسموعة في حينها ولم تكن أقوى من الرصاص الذي مشينا بينه منذ بداية ذلك النهار ولم يُخفنا، لكن صوت الجملة تلك بقي في رأسي طوال الفترة المنقضية منذ ذلك الحين بعد عودتي وحتى اليوم، كان صوتها يرتجف مستجدياً ابتعادنا مستخدماً صيغة الأمر؛ ولكن أوامرهم غير مطاعة.
سألت نفسي وكررت السؤال.. إلى أي حد كنت مخدَّراً ضد الخوف، أهو شغف نقل الرسالة؟ وإلى أي حدّ يملك الفلسطيني إيمانا بالحق والعودة حتى جعل حقل الألغام والرصاص المتفجر والدخان المسيل للدموع خرافة لا تردعه عن قطع الحدود!
المصدر: موقع المنار