خلعت جبهة النصرة في سوريا عباءة تنظيم القاعدة العالمي، والتي لبستها غصباً بعدما أفشى أبو بكر البغدادي هذا الإنتماء في نيسان / ابريل من العام 2013، بإعلانه حينها دمج فرعي القاعدة في العراق والشام، تحت مسمى “الدولة الإسلامية”.
تبدلت الأحوال وتغيرت خلال الأعوام القليلة الماضية، فلا البغدادي بقي مع القاعدة ولا حتى الجولاني، لعلة في المشروع نفسه، فلو كانت القاعدة ذات رؤية واضحة، لما تخلى عنها الرجلان، ولو كان أيمن الظواهري ذو شخصية قيادية، لما تخلى عنه “جندياه” البغدادي والجولاني.
سابقة في تنظيم القاعدة، أن ينفصل فرع عن الأصل بهذه الطريقة التي حصلت مع جبهة النصرة، في إشارة إلى اعتراف ضمني من القيادة، بأن هذا المشروع الذي حملته منذ عشرات السنين، لم يعد قابلاً للحياة، مهما حاول منظروه إنعاشه، وهذا ما أشار إليه نائب أيمن الظواهري أحمد حسن ابو الخير، في رسالته التي دعا فيها الجبهة إلى اتخاذ ما تراه مناسباً حيال خطوة الانفصال.
فلو كان مشروع القاعدة مجدياً، لتمسكت به جبهة النصرة، ولما سمح لها الظواهري بالإنفصال، وإذا كان الإنفصال عن القاعدة خير للشام بحسب ما يقال من تبريرات، فماذا حقق الإرتباط من خير، بل وماذا حقق تنظيم القاعدة من خير للأمة الإسلامية منذ ظهوره عام 1988.
وأقدم الجولاني على الانفصال عن القاعدة *، استجابة لرغبات العديد من الجهات، من داخل جبهة النصرة ومن خارجها، بعدما خلت من قيادات الرعيل الأول من تنظيم القاعدة، وبعدما تخلص الجولاني من جميع الأصوات التي كانت تعارض بشدة هذه الخطوة بحسب العديد من التقارير، وأبرزها جماعة خراسان بقيادة الكويتي محسن الفضلى، ومن أبرز أعضائها السعودي عبدالمحسن الشارخ، بالإضافة إلى أبو فراس السوري، والقيادي أحمد كساب المسالمة، وغيرهم من القادة.
وعرف عن الجولاني تخبطه في قيادة جبهة النصرة، بالإضافة إلى الفساد التنظيمي، وكانت التقارير تتوالى إلى خراسان حيث قيادة القاعدة تشكو سوء إدارة الجولاني للجبهة، و”هدر الأموال”، وهذا ما اقر به الجولاني في احدى التسجيلات المسربة.
وظهر الجولاني في خطابه الأخير كزعيم لجبهة النصرة، متناقضاً مع ما قاله خلال الفترات السابقة، خصوصاً الخطاب الأول، خطاب تأسيس جبهة النصرة، في أواخر عام 2012، حين قال إن “التغيير ينبغي أن يكون من الباطل إلى الحق”، وحذر الأمة من الخداع، فهل التغيير الحالي يندرج تحت هذا التصنيف، بأن النصرة سابقاً كانت في الباطل والآن “اهتدت إلى الحق”، وهل يمارس الجولاني هنا الخداع؟.
الجولاني وفي مقابلة عرضتها الجزيرة القطرية و”اورينت”، اعتبر ان الولايات المتحدة تصنف الجماعات بناء على الفكر التي تتبناه، فهل غير الجولاني الفكر الذي يعتنقه؟. وقال إن الطائرات الدولية تقصف جبهة النصرة كما تقصف باقي الفصائل، وأن الارتباط بالقاعدة ليس له علاقة، فما الذي حصل، حتى تغيرت الأقوال.
سلسلة من الضغوط تعرضت لها جبهة النصرة من قبل الجهات الإقليمية خصوصاً من تركيا، التي قطعت عنها الدعم المالي والتسلحي، بهدف عزلها ودفعها للتخلي عن خيار تنظيم القاعدة، بعدما فشلت مساعي تلميع صورتها إعلامياً، وتقديمها معتدلة أمام الرأي العام، حيث كان الإرتباط بالقاعدة هو العقبة الأساسية.
واستجابت النصرة لتلك الضغوط، وبدلت بيعتها، التي تؤخذ على الموت، داخل هذه الجماعات التكفيرية، ما يدل على نفاق تمارسه هذه الجبهة حتى بالفكر الذي تتبناه، واستخدامه لغايات شخصية. وبعدما كان الحديث عن إعلان “سلطان الله على ارضه”، بات تنظيم القاعدة يتحدث اليوم عن “دفع ذرائع المجتمع الدولي”، فيما تم تعديل الأحكام الشرعية لديه من حرمة الاستعانة بـ “الكفار”، إلى جواز هذا الأمر، بحسب ما يقولون.
وليس من الواضح تداعيات هذا الإنفصال على العلاقة مع الغرب، وان كان سيقبل “توبة” جبهة النصرة عن خيار القاعدة، خصوصاً وأن الأخير قد حسم خياره بضرب النصرة في سوريا، واتى فك الإرتباط متأخراً، فالنصرة باتت في قلب الإتفاق الروسي – الأميركي، ومن الجماعات المطلوب إنهاء نشاطها.
والمفارقة أن زعيم القاعدة أيمن الظواهري كان قد حذر جبهة النصرة في آخر كلمة له المُعَنْونة بـ “انفروا للشام” من فك ارتباطها بالتنظيم، وسأل “هل سيرضى أكابر المجرمين عن جبهة النصرة لو فارقت القاعدة، أم سيلزمونها بالجلوس على المائدة مع القتلة المجرمين، ثم بالإذعان لاتفاقات الذل والمهانة، والرضوخ لحكومات الفساد والتبعية، ودخول لعبة الديمقراطية العفنة، ثم بعد ذلك يلقون بهم في السجن كما فعلوا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، وبالإخوان المسلمين في مصر”.
خطوة فك الارتباط تثير العديد من التساؤلات، حول مصير الاجانب في بلاد الشام، الذين لم يلجأوا إلى داعش ابان فترة الخلاف، باعتبار أن مشروع النصرة هو إقامة “الخلافة الاسلامية” في سوريا، وفك الارتباط هو تخلٍ عن هذا الهدف، وقبول بمخرجات الاتفاقات الدولية بشأن الأزمة السورية.
مصير الأجانب، هو أولى التساؤلات، لا سيما أن الحديث كان دائماً يتركز في الأوساط “الجهادية” عن اتفاق شبيه “باتفاق دايتون” الذي أخرج بموجبه المقاتلون الأجانب من البوسنة عام 1995، بعد حرب البوسنة والهرسك.
وهنا يكون داعش أول المستفيدين مما قد يحصل، على إعتبار أنه الوعاء الأمثل لتقبل هؤلاء “المهاجرين”، خاصة الذين لم يقطعوا حبل الود معه، كجماعة “جند الأقصى”، على سبيل المثال لا الحصر.
وعلى مدى اعوام، عملت العديد من الجهات الإقليمية والأميركية (جهاز المخابرات) على تلطيف جبهة النصرة والتمهيد لمثل هكذا استدارة، وتحدت تقرير لوكالة رويترز بداية العام الماضي عن امكانية انفصال جبهة النصرة، حيث وعدت بدعم مالي لها من دول عربية معروفة.
بالإضافة إلى الإعلان عن تأسيس “جبهة فتح الشام”، وتسلم الجولاني منصب القائد العام لها، كشف هذا الرجل عن وجهه الحقيقي، بعدما بقي متخفياً طيلة الفترة السابقة، فيما لم يتم الإعلان عن هويته الرسمية. لكن تقريراً نشرته قناة الجزيرة القطرية العام الماضي، قال إنه لا يوجد اسم موحد للجولاني، والمتعارف أنه “أسامة العبسي الواحدي”، ولد عام 1981 في بلدة الشحيل التابعة لمدينة دير الزور وسط عائلة أصلها من محافظة إدلب، وانتقلت إلى دير الزور حيث كان والدها موظفا في القطاع الحكومي.
انضم الى تنظيم القاعدة وفرعه العراقي بعد الغزو الأميركي 2003، وعمل تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، وبات من الدائرة المقربة منه. وبعد اغتيال الزرقاوي عام 2006، غادر من العراق إلى لبنان حيث “يعتقد أنه أشرف على تدريب جند الشام المرتبط بتنظيم القاعدة”.
وبعد عودته إلى العراق، اعتقل من قبل القوات الأميركية، وأودع في سجن بوكا، الذي ضم العديد من الإرهابيين، واطلق سراحه عام 2008.
وفي بداية الأحداث في سوريا، ارسله زعيم داعش الحالي ابو بكر البغدادي إلى سوريا، لتأسيس فرع لتنظيم القاعدة في هذا البلد، ليصبح المسؤول العام لجبهة النصرة، والآن بات المسؤول العام لـ “جبهة فتح الشام”.
وفي وقت لم يعلن عن هيكلية هذه الجبهة ولا عن أسماء قادتها، فإن العديد من المغردين المحسوبين على الجماعات المسلحة على موقع تويتر، قالوا إن الجبهة الجديدة ما هي إلا نسخة منقحة عن النصرة، ولا يوجد اي تغيير في هيكليتها، فيما تحدث آخرون عن امكانية حدوث انشقاقات كبيرة داخل الجبهة، وأن العديد من الشخصيات داخلها رافضة لمثل هكذا انفصال، خصوصاً “الشرعية” منها.
زلزال ضرب جبهة النصرة، خصوصاً بعدما عملت لسنوات على تثبيت صورتها القاعدية، وهي اليوم قد انقلبت على نفسها، فهل ستكون أمام انشقاقات داخلية واسعة، أم أن جناحها الأمني بقيادته الأردنية، سيحافظ على التماسك الداخلي.
*بثت قناة الجزيرة القطرية كلمة لابو محمد الجولاني، أعلن فيها عن فك الارتباط مع تنظيم القاعدة والعمل تحت مسمى “جبهة فتح الشام”. وقال الجولاني إن فك الارتباط جاء تلبية لما سماها رغبات أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي، وإن الجبهة الجديدة غير مرتبطة بأي جهات خارجية.
المصدر: موقع المنار