مرحلة جديدة في عُمر بريطانيا والإتحاد الأوروبي بدأت تتشكل بعد ظهور نتائج الإستفتاء البريطاني لصالح “الخروج” من الاتحاد الأوروبي، بنسبة 51,9%، مقابل 48,1 من الأصوات لصالح البقاء. صوتت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي وفتحت معها الباب أمام مرحلة لا شكّ أنها ستشهد مزيدا من التفكك في سياسات الدول الأوروبية، فأوروبا بعد خروج بريطانيا ليست بالتأكيد كما قبلها، فهناك نظام أوروبي جديد “سياسي – إقتصادي – إجتماعي” بدأ يرتسم، وربما سيؤثّر بدوره على النظام العالمي، وبالأخص على التكتلات الإقتصادية التي هي في طور التشكّل.
قال الشعب البريطاني كلمته، ورمى الكرة في ملعب المؤسسات المالية الكبرى في بريطانيا والتي تعرف بـ”الصناديق السياديّة” والتي سيكون لها الكلمة الفصل في اختيار الإنفصال عن الإتحاد أو بقائه. وفي هذا الإطار سوف ترى هذه الصناديق إذا ما كانت السياسات الإقتصادية المستقبلية لبريطانيا تتعارض مع سياسة الإتحاد الأوروبي فإن الإنفصال سيكون واجباً، أمّا اذا كانت السياسات المالية والإقتصادية متطابقة فإن التعاون يبقى مستمراً بآليات عمل جديدة، وبالتالي لن يكون هناك أي حاجة لكي تخرج المؤسسات المالية الأوروبية الكبيرة عن الأراضي البريطانية الى فرنسا أو المانيا أو لوكسمبورغ.
تداعيات إقتصاديّة للخروج
القلق الأكبر ينجم اليوم عن الخسائر الإقتصاديّة البريطانيّة المتوقعة بعد الخروج، وهنا يقول وزير المالية البريطاني أن الخروج من الاتحاد يمكن أن ينجم عنه رفع الضرائب على البريطانيين وخفض النفقات، لتعويض نقص مالي بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني أي 38 مليار يورو. ومن الخسائر المتوقعة ايضا هو فرض رسوم جديدة على حركة الإستيراد والتصدير من والى بريطانيا على اعتبار أن 45% من صادرات بريطانيا هي الى دول الاتحاد الأوروبي، كما أنها تستورد سنويّا بمعدّل 45 مليار يورو من ألمانيا وحدها، وهي أمور ستكون أمام ضرائب جديدة ورسوم جمركيّة في حال الإنفصال. هذا ولن تكون اليد العاملة البريطانية بعيدة عن التأثّر على اعتبار أنّ حوالي نصف مليون بريطاني يعملون في مؤسسات أوروبية داخل دول الإتحاد، وهم سيكونون أمام احتمالات بدل اسعار صرف العملات، وأمام نظام إقامة جديدة يمكن أن يترتب عليه بدلات إقامة جديدة.
ويقول خبراء اقتصاديون أنّ المستفيد الأكبر من الإنفصال ستكون لوكسمبورغ التي بدأ قطاعها المصرفي “وهو يضمّ 143 مؤسسة”، الاستعداد لاستقبال مصارف جديدة من لندن تابعة لدول غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً أمريكيّة وأستراليّة وكنديّة وسويسريّة وتركيّة، وهي مؤسسات تحتاج في حال الإنفصال الى دولة تكون خاضعة للنظام الإقتصادي الأوروبي، وهو الأمر الذي تستطيع أن توفره لوكسمبورغ كونها منطقة لقطاع المال والاعمال داخل الإتحاد.
استقرار هش داخل الإتحاد
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون له أيضاً تأثيرات سلبيّة على استقرار الإتحاد الأوروبي، خاصةً أن هذا الأمر يمكن أن يدفع ببلدان أخرى للسير في نفس الاتجاه، نتيجة الضغوط الإقتصادية التي ستنجم عن انفصال بريطانيا، وخاصة تلك التي تعاني من مشاكل اقتصاديّة كبيرة مثل البرتغال واليونان التي تعرضت لضغوط كبيرة بداية العام نتيجة الإفلاس الذي تعاني منه. وكان وزير الخارجية الألماني قد حذّر من مخاطر “تفكك” الاتحاد الأوروبي في حال خروج بريطانيا. الخطر الإقتصادي سيترافق ايضاً مع تأثيرات سياسية كبيرة على دول الإتحاد، إذ ستفقد السياسة الخارجية للإتحاد الكثير من الثقل الدبلوماسي بعد خروج بريطانيا وخاصة في الملفات الكبرى وتلك التي تتعرض بالعلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية.
وكما في دول اوروبا كذلك الأمر بالنسبة لاسكتلندا التي عبّرت مراراً عن رغبتها في البقاء مع الاتحاد الاوروبي، فإنها بدأت المطالبة جديّاً بالإستقلال عن بريطانيا، ولكن هذا الأمر ستكون له تحديات كبيرة وخاصة ان استكتلندا تمتلك على اراضيها وفي مياهها منشآت عسكرية أمريكية، ستكون في حال انفصلاها مجبرة على التفاوض مع واشنطن بشأنها بمعزل عن لندن.
وبين هذا وذاك يبقى التحدّي الأمني حاضراً في بريطانيا ودول الإتحاد وخاصة بعد الأحداث التي شهدتها فرنسا خلال الاشهر الماضية، واحتمالات امتداد ذلك على مختلف الدول الأوروبية.
مرحلة جديدة دخلتها أوروبا ومعها النظام العالمي بشكل عام الذي بات يقف اليوم أمام مفترق خطير، فانفصال بريطانيا يمكن أن يؤشر الى فشل التكتلات الإقتصادية الكبرى في العيش لفترة طويلة، كما أنه ينمّي فكرة الاستقلال التام اقتصادياً وسياسيّا بالنسبة للدول المنضويّة تحت مظلات دول وتكتلات اخرى، في ظلّ عدم اكتمال تجربة الوحدة.
ومما لا شكّ فيه أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من التمزّق تحت وطاة الإقتصاد والهجرة غير الشرعية المستمرة دون توقف، إضافة الى المشكلات السياسية التي تكبر يوما بعد آخر. قالت بريطانيا كلمتها اليوم ووضعت النظام العالمي أمام احتمالات عديدة لاعادة التشكل من جديد.
المصدر: موقع المنار