كثر في الفترة الاخيرة الحديث عن دور المجلس الدستوري اللبناني في ظل الطعن الذي قدم امامه حول قانون الضرائب لتمويل سلسلة الرتب والرواتب، ما ادى الى إبطال القانون رقم 45/2017 وعودة السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب الى الاجتماع واقرار قانون جديد مع الأخذ بالاعتبار – ولو بصورة شكلية – الجوانب التي تحدث عنها المجلس الدستوري في قراره لابطال القانون الاول.
ومع ان البعض تحدث ان السلطة السياسية التفت على قرار المجلس الدستوري المتعلق بالضرائب وقررت ما تريد مع عدم إحراج نفسها للوصول الى طعن جديد بالقانون الجديد امام المجلس، إلا ان مجرد الالتزام بما قرره المجلس الدستوري هو خطوة ايجابية تسجل للمجلس رغم كل ما يمكن ان يوضع امامه من عوائق تمنعه من لعب دوره على اكمل وجه فيما يتعلق بدستورية القوانين بشكل خاص بالاضافة الى لعب أدوار اخرى أسوة بنظرائه من المجالس او المحاكم الدستورية في مختلف دول العالم.
العدالة الدستورية والحفاظ على الحقوق والحريات..
والرقابة على دستورية القوانين تعتبر من حيث نشأتها وتطورها واهدافها، جزءا لا يتجزأ من النظم الديمقراطية أيا كان شكلها، كما ان الرقابة على دستورية القوانين هي من المستلزمات الاساسية والمرتكزات الهامة للحفاظ على الحقوق وحريات الانسان، ومن خلالها تتحق العدالة الدستورية ويمكن ضبط التزام كل سلطة من السلطات في الدولة بصلاحياتها المنصوص عليها في الدستور والقوانين دون ان تتعدى على صلاحيات واختصاصات السلطات الاخرى.
وانطلاقا من اهمية الرقابة على دستورية القوانين فقد اوجدت الدول الديمقرطية في العالم جهة او محكمة مختصة لها حصرا البت في هذا الاختصاص دون غيرها من الجهات، ونادرا ما نجد اليوم دولة في العالم لا توجد فيها مؤسسة متخصصة بالرقابة على دستورية القوانين، وعلى هذا المنوال فقد سار لبنان حيث وجد المجلس الدستوري كجهة وحيدة للنظر بدستورية القوانين.
والمجلس الدستوري اللبناني هو جهة دستورية مستقلة ذات صفة قضائية، تناط بها الى جانب البت بدستورية القوانين، مسألة البت بالنزاعات الناتجة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية، فالمجلس الدستوري هو ركن اساسي من اركان النظام الدستوري اللبناني.
لكن لبنان يعتبر قد تأخر نسبيا في ايجاد جهة تختص برقابة دستورية القوانين، حيث قرر المشرع اللبناني في التعديلات الدستورية التي حصلت في العام 1990 بعد اتفاق الطائف اقرار مادة يتيمة في الدستور توجب انشاء المجلس الدستوري الذي تحصر به صلاحية النظر بدستورية القوانين بالاضافة الى البت في صحة الانتخابات الرئاسية والنيابية.
تقييد المجلس الدستوري..
ورغم هذا التأخير إلا ان المجلس ولد بعد طول انتظار من رحم المعارضة الضمنية للطبقة السياسية اللبنانية، فقد أُقِرَ قانون انشاء المجلس الدستوري في العام 1993 بينما التعديلات الدستورية في لبنان أقرت في العام 1990 بعد التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف بالسعودية عام 1989، اي ان الامر أخذ ما يزيد عن الثلاث سنوات، ما يوحي ان المشرع اللبناني أراد تقييد المجلس الدستوري منذ ولادته، وبعث برسالة واضحة له مفادها ان التقييد سيكون رفيقه في مستقبل الايام، ومن دلائل ذلك هو سحب المشرع لصلاحيات أقرها اتفاق الطائف للمجلس الدستوري، فالطبقة السياسية اللبنانية (الممثلة في كتل نيابية داخل البرلمان) بداية قررت إعطاء المجلس الدستوري صلاحيات واسعة قبل ان تتنبه ان هذه الجهة ستكون الرقيب عليها والجهة التي ستحد من حدود امتيازاتها وسلطاتها، لذلك عند اقرار قانون إنشاء المجلس جرى تقييد صلاحياته واختصاصاته.
ومع كل ذلك فقد أكد المجلس في محطات عديدة قدرته الذاتية على لعب الادوار المأمولة منه فيما لو أتيحت له الفرص وتُرك له المجال ولم توضع أمامه العوائق، علما ان العوائق التي يعاني منها المجلس الدستوري عديدة، حيث يُستفاد احيانا من نصوص القانون لمنع المجلس عن القيام بدوره بفعالية، كما سجل الواقع العديد من الموانع العملية التي أفرزتها ظروف التي يعمل بها المجلس الدستوري في لبنان.
لكن يجب العمل لتطوير تجربة المجلس الدستوري اللبناني وتفعيلها وترسيخها لكي يحقق المجلس الاهداف التي وجد من أجلها ويسهم في تطوير التجربة الديمقراطية في لبنان ومواصلة السعي لبناء دولة المؤسسات والقانون التي تحمي حقوق المواطن وحرياته وتهتم بشؤونه على مختلف المستويات.
العوائق بين النص والواقع العملي..
والحقيقة ان ايجاد المجلس الدستوري من دون تمكينه من لعب دوره بفعالية او منحه الوسائل الممكنة لذلك على أكمل وجه، هو أشبه بالايحاء بوجود مستلزمات الحياة الديمقراطية بصورة شكلية فقط من دون تحقيق هذا الامر في دنيا الواقع، لان المجلس الدستوري اذا ما لعب دوره بشكل فعال وبحسب ما ينتظر منه سيكون الضامن لحقوق وحريات الانسان الاساسية، وكما قال مونتيسكيو “لا ضمانة لحقوق الانسان بدون رقابة على دستورية القوانين”، فهل يمكن تحقيق هذه الضمانة مع “تقليم أظافر” الجهة المختصة برقابة دستورية القوانين ومنعها من العمل بكل جدية وقوة وصولا لهذا الهدف؟
ومن هنا تبرز تساؤلات حول دور المجلس الدستوري ومدى قيامه بالوظيفة المأمولة منه بشكل نموذجي وفعال وهل يوجد ما يعيقه عن القيام بذلك، وهل ان العوائق التي قد تعرقل عمل المجلس الدستوري هي ثغرات موجودة او أوجدت في النص القانوني ام انها عوائق عملية في الحياة القانونية والسياسية اللبنانية؟
وانطلاقا من ذلك يجب البحث في العوائق التي تقف امام قيام المجلس الدستوري بدوره بفعالية (وهي عوائق عديدة منها ما هو منصوص عليه في قانون إنشاء المجلس الدستوري ومنها ما هو قائم بحكم التوافق السياسي بين مختلف الاطراف في لبنان)، كما يجب البحث عن السبل الممكنة لإزالة هذه العوائق وكيفية إعطاء المجلس الصلاحيات التي يحتاجها للعب الدور المطلوب منه، بمعنى ان المجلس الدستوري اليوم موجود وقائم ولكنه “مكبل” بسلسلة من القيود التي سنسلط الضوء عليها ونبحث عن السبل الممكنة لـ”اطلاق حرية” المجلس وامكانية قبول الطبقة السياسية اللبنانية بذلك، وأهمية هذا الامر في تفعيل عمل المجلس واعطائه من الصلاحيات ما يمنع اي احد من التشويش على مسيرته.
لماذا حصر المراجعة بجهات محددة؟!
وعلى سبيل المثال من ابرز هذه العوائق اليوم هو كيفية وضع المجلس الدستوري يده على المراجعة للبحث في دستورية القانون، حيث يجب في لبنان ان تقوم احدى الجهات المنصوص عليها قانون بتقديم مراجعة حتى يمكن للمجلس ان يبحث في دستورية القانون، وهذه الجهات هي: أحد الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة)، عشر نواب (10 نواب)، ورؤساء الطوائف فيما تعلق بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني، وغير هذه الجهات لا يمكن لاحد مراجعة المجلس الدستوري للطعن بعدم دستورية قانون ولو كان مخالفا للدستور بشكل فاضح وذلك لعدم توافر الصفة بالطاعن.
بينما نجد الكثير من دول العالم فتحت الباب امام الطعن بعدم دستورية القانون بطرق مختلفة، منها على سبيل المثال: جعل الطعن مباشرة من قبل الافراد، الطعن عبر الدفع الفرعي امام المحاكم المختلفة، وضع اليد من قبل المجلس الدستوري بشكل عفوي ومباشر في كل مرة يجد فيها عدم دستورية في قانون ما، بالاضافة الى العديد من السبل التي تمنع مرور قانون مخالف الدستور وان يتحصن ضد الطعن والابطال وذلك خدمة للمصلحة العامة العليا المتمثلة بسيادة وسمو القانون، وهذا ما يجب ان يكون عليه الهدف المنشود في لبنان لان الوصول الى دولة القانون والمؤسسات لا يمكن الا بالبدء باحترام القانون الاعلى المتمثل بالدستور.
المصدر: موقع المنار