الإنسان من دون ذاكرة كائن بلا فائدة… وهذه القدرة السحرية المتجذّرة في أدمغتنا تُمكّننا من تخزين المعلومات واسترجاعها في أوقات الضرورة. لكن عندما تصاب ذاكرة الإنسان بالضعف، يبدأ باختبار المشاكل مباشرةً، سواء العملية أو الاجتماعية أو النفسية… من هنا ضرورة حماية هذه القدرة التي تطبَع شخصياتنا وتحدّد مَن نحن.
للذاكرة دور مهم في الحياة اليومية، وهي السلاح الذي يستخدمه كلّ إنسان للنجاح، فهي سلاح الطالب في امتحانه، والأستاذ في شرحه، والعامل في واجبه، والمدير في قراراته، ورجل الدين في عظاته، والرياضي في حركاته.
فما هي تفاصيل هذا الجزء المعقّد في رأس الإنسان، وما تركيبته، وكيف يعمل، وكيف يمكن حمايته وتعزيز قدراته؟
مستودع للمعلومات
كلّ الناس يمتلكون ذاكرةً، ولكن قلائل هم العارفون بخبايا هذه القدرة العجيبة، ومن بين المتخصّصين في هذا المجال رئيس قسم أمراض الجهاز العصبي في مستشفى سيّدة المعونات الجامعي-جبيل، والدكتور في كلّية الطبّ في جامعة الروح القدس- كسليك، حنا مطر، الذي يقول: «قد تتلخّص الذاكرة بالقدرة على تذكّر التواريخ والوجوه والحقائق والمعلومات والأشكال والمعطيات، واستقبال المعلومات والاحتفاظ بها واستدعائها عند الحاجة. وبالتالي هذا الجزء من العقل البشري هو مستودع لكلّ الانطباعات والتجارب التي أكتسبَها الإنسان».
الذاكرة العملية
الذاكرة نوعان: القصيرة الأمد، والطويلة الأمد، ولكلّ منهما دور مختلف، ويشرح مطر أنّ «الذاكرة القصيرة الأمد هي المدخل الأساسي لأيّ إحساس بصَري، سمعي، أو نظري، الذي يؤثّر في الشخص بطريقة معيّنة، ويتمّ بعدها تجهيزها للدخول إلى مرحلة أخرى. فتحفظ الذاكرة القصيرة هذه الإدراكات لفترة من الوقت وتَسمح باستعمال هذه المعلومات المخزّنة في الأمور التي يحتاجها الإنسان، كرقم هاتف أو سيارة. وبعد هذه العملية، وإذا قرّر الشخص تثبيتَ هذه المعلومات لأهمّيتها، تدخل عندها في الذاكرة الطويلة الأمد». مضيفاً: «الذاكرة القصيرة الأمد، هي ذاكرة عملية، فإذا رأى الفرد منظراً جميلاً، أو قصّة أعجبَته، أو اشتمَّ رائحة زكية، ورأى فيها معلومات مهمّة بالنسبة له، عندها يسجّلها ويثبّتها في ذاكرته الطويلة الأمد، وإذا رأى أن لا حاجة له بها، ينساها تلقائياً».
ويتابع مطر قائلاً، إنّ «الوضع الصحّي للإنسان (الاكتئاب أو المشاكل الصحّية) قد لا يسمح بتسجيل المعلومات المهمّة حتى في الذاكرة القصيرة، وبالتالي لن تمرّ بالطبع إلى الذاكرة الطويلة الأمد».
الذاكرة الطويلة الأمد
وعن الذاكرة الطويلة الأمد، يفسّر أنّها «تسمح بتكوين الذاكرة الخاصة بالشخص، وتتضمّن المعلومات المتعلّقة بالماضي القريب والبعيد وكلّ الخبرات، وتخزّنها لفترةٍ غير محدّدة، ولها سِعة تخزين أكبر من القصيرة، وتنقسم بدورها إلى جزءَين:
– الذاكرة الواعية: وتتضمّن المعلومات المكتَسَبة، كحفظ معلومات شخصية، أو يوميات عشناها…
– الذاكرة اللاواعية: مثل تعلّم بعض الفنون، كالعزف على البيانو، أو معلومات مهمّة حصَلنا عليها بعد محاضرة شاركنا فيها، وبالتالي فهي موجودة داخلنا ويمكن أن يمرّ الوقت عليها، ولكن عندما يرى الإنسان أنّه بحاجة إلى هذه المعلومات، يحفّز خلايا ذاكرته حتى تعود المعلومات إلى السطح ليتمكّن من استعمالها».
ماذا لو غابت الذاكرة؟
الذاكرة مفيدة على الأصعدة كافة، وتخيّلوا أنه ليس بإمكانكم الإجابة عن الأسئلة الآتية:
– مَن هم أفراد أسرتك، وما أسماء أصدقائك؟
– أين يقع منزلك؟
– كيف ستكمِل دراستك أو عملك الذي بدأته أمس؟
– كيف تستعمل الأدوات اليومية؟
أسئلة لا متناهية يمكن أن تُطرَح، لتدلّ على أنّ فراغ الذاكرة أو فقدانها يؤدّي إلى فقدان الفرد فاعليتَه.
ويكمِل الدكتور حنّا مطر حديثه، موضحاً أن «ليس هناك ذاكرة ضعيفة كما يَعتقد البعض، لكن هؤلاء الأشخاص في الحقيقة يمتلكون ذاكرةً غير مدرّبة، فكلّما استَعملنا كمّية أكبر من ذاكرتنا في عمر صغير تمكّنَت من حفظ كمّيات أكبر من المعلومات في المستقبل». لا شكَ في أنّ كيفية تكوّن الذاكرة وطريقة استرجاع المعلومات أمرٌ معقّد للغاية، إذ توجد في دماغنا أعداد هائلة من الخلايا العصبية التي تعمل في الدماغ، وعبر هذه الخلايا تجري عمليات التفكير والتذكّر.
طرُق التحفيز
وكجميع أعضاء الجسم، تفقد الذاكرة أو تخفّ فاعليتها عند التقدّم في السنّ، ولا يمكن إطالة عمرها، إلّا أنّه يمكن تمرينها وتحفيزها حتى تصبح أكثر نشاطاً واستجابة عند الضرورة. ويشرح مطر أنّ «عملية تقوية الذاكرة وتعزيزها وتحويل الذكريات من قصيرة إلى طويلة الأمد تعتمد بشكل أساسي على التمارين والحركات الفكرية التي تنشّط الذاكرة، كالمواظبة على القراءة والتكرار، والتسميع، والترميز، والتخيّل، والتجميع… فتساعد هذه المهارات على حفظ البيانات واسترجاعها بسهولة، بالإضافة إلى بعض العلاجات الدوائية كالفيتامين «ب»، بحيث إنّ الأشخاص الذين يحتوي نظامهم الغذائي على هذا الفيتامين هم أكثر قدرةً على التركيز، والأوميغا 3 تقلّل من مخاطر تقدّم العمر والذاكرة».
آثار التكنولوجيا
وأشار في نهاية حديثه إلى أنّ «استخدام التكنولوجيا يمكن أن يوقف تحفيز التفكير، وأن يخلق معوقات أمام تشكيل ذكريات جديدة. وبات الإنسان العصري يواجه صعوبات جمّة في المحافظة على ذاكرته بسبب اعتماده المبالغ على وسائل التكنولوجيا المختلفة، بدلاً من ذاكرته الخاصة، من خلال ابتعاده عن حفظ المعلومات (الروايات، كلمات، أو مصطلحات)، واتّكاله على هاتفه الذكي لحفظ التفاصيل الضرورية، أو على الشبكة العنكبوتية كمصدر خارجي للحصول على أيّة معلومة، وبالتالي تُخفّف هذه العملية فعالية الذاكرة العاملة أو القصيرة المدى التي تحوّل المعلومات إلى الذاكرة الطويلة المدى».
من اجل ان تعلم
– تستدعي الذاكرة المعلومات عند الحاجة
– شخصية الانسان ترتكز على الذاكرة الطويلة الأمد
– علاقة الاكتئاب بتوقّف الذاكرة
– أهمية التمارين الفكرية
– دور العلاجات الدوائية
– آثار التكنولوجيا على الذاكرة
المصدر: جريدة الجمهورية