استُشهد سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله بعد مطاردات إسرائيلية استغرقت ربع قرن، وكلّفت أميركا وإسرائيل جهودًا وميزانيات بشرية وتقنية ومادية. كان استشهاده فريدًا وجديدًا لم يسبق أن اغتيل أحد بمثل الطريقة التي استُهدف بها، والتي تدلّ على ما كان يمثّله للأعداء، من قلق ورعبٍ وتهديدٍ وجودي.
استشهد السيد حسن نصر الله كما سيذكر التاريخ، خلال قيادته لمعركة “إسناد غزة”، بإلقاء عشر طائرات حربية لـ 83 طنًا من الصواريخ والقنابل -غير المعهودة- على المنطقة التي كان موجودًا فيها، على امتداد خمسة شوارع، لقتل أي أملٍ له بالنجاة، أو حتى بالتنفّس. وقد أمَلَ الكيان الإسرائيلي وأتباعه بأن تكون شهادته إعلانًا لانتهاء مرحلة تاريخية كاملة، ينتهي فيها السلاح وتنتهي المقاومة وتدشّن إسرائيل حقبة جديدة من تاريخ هيمنتها واحتلالها.
لكن شهادة السيد حسن نصر الله كانت بداية الحرب التي انطلقت بعد ساعات قليلة من استهدافه، فبدأ العدو حربًا عنيفة على الجنوب والبقاع وبيروت، وصولًا إلى طرابلس وزغرتا والهرمل لإضعاف شعب المقاومة، الذي استلهم من شهادة قائدِهِ معنى التضحية والإيثار، وبذلك لم تستطع حرب الخريف للعام 2024 أن تترك مفاعيلها ونتائجها وتأثيراتها السلبية التي أرادها العدو.
جاء تأجيل التشييع الخاص بسماحته لمدة خمسة أشهر تقريبًا، مع الوقائع السابقة ليشكّل أرضيةً، يكون من خلالها حفل التشييع، محطة زمنية وتاريخية ووجدانية، تحفر في عمق الذاكرة الجماعية لكل من عاش عصر السيد حسن نصر الله على امتداد القارات الخمس.
فما القيم الجهادية والمعنوية والنفسية التي سيحملها هذا التشييع؟
يريدون النّيل من عزيمتكم.. ونحن كلنا على ثقة من إيمانكم ووفائكم والتزامكم وصبركم واستعدادكم للتضحية.
سيد شهداء الأمة السيد حسن نصرالله (رض) pic.twitter.com/n72wCQgrgd
— قناة المنار (@TVManar1) February 18, 2025
اليوم التاريخي: نقطة التحوّل
لن يكون التشييع صفحة وانطوت كما يعتقد البعض أو يتخيّل، بل هو نقطة تحوّل تاريخيةٍ حاسمة في موضوع إعادة بناء المقاوِمة. إنّ يوم التشييع التاريخي ليس محطة لتسييل الوجد العاطفي والمشاعر فقط، بل هو رسالة أولاً وأخيرًا بأن هذه الجماهير التي فقدت قائدها وحاميها وظهرها، لن تموت بموتِه ولن تنكسر أو تنهزم، كما يحلم أعداؤها، بل هي تستضيئ بدمائه وتعاليمه ووصاياه لتتابع النهج الذي سار عليه وتتأسّى به.
يأتي توقيت التشييع -لحكمة إلهية- مواكبًا لفترة تشكّل منعطفًا سياسيًا دقيقًا في المنطقة العربية والإسلامية، حيث يستعد ترامب لإجبار زعماء المنطقة بالتهديد والوعيد، على الاعتراف بانتهاء فترة زمنية ومحورٍ كامل من القيادات والرموز ومقوّمات العيش والحياة، وفي وقت يسعى فيه البعض لترحيل أهل غزة نحو مصر والأردن، فهل سينجح المشيّعون في إيصال صوتهم ورسالتهم للعالم؟ أنهم مستمرون على العهد، بل ازدادوا إصراراً عن ذي قبل لأن الاستشهاد يخلّف أمانة ثقيلة على الآخرين أن يحسنوا حملها.
الاستمرارية والإصرار على متابعة النهج
سيكون هذا الإصرار شعورًا عمليًا ونظريًا في الوقت عينه. فالسيد الذي كان الملهمَ والحامي والقائدَ والأبَ الحنون لا يغيب موقعه ولا حضوره، بل يتجذّر أكثر في نفوس محبّيه، بحيث تتحوّل العواطف تجاهه إلى حوافز متعددة، للتمسك بتعاليمه، ولصون وصاياه، وللتماهي مع أقواله وإظهار الولاء له ولو بعد الغياب.
لا شك أن مشاعر الجماهير نحو سيد المقاومة ستطرح أسئلةً كثيرة لدى كل زعيم أو سياسي، من الأصدقاء والأعداء، لأنها تشكّل نموذجًا فريدًا للعلاقة بين القائد والجماهير، وهي علاقة لم يستكمل عناصرها كثير من الزعماء. وهذا ما يستدعي سؤال الإنسان لذاته: ما سرّ هذا الفيض من المشاعر واللهفة والولاء؟ كيف استطاع سماحة السيد أن يحوز هذه المكانة لدى الجماهير؟ ما أسرار شخصيته وسيرته ومواقفه؟ وكيف يستطيع القائد بناء مواصفات كاريزماتية كتلك التي امتلكها؟
في تشييع السيد لا بد وأن يتجلّى الصبر والقبضات والرؤوس المرفوعة والشعار المدروس، لأن السيد استشهد كي لا تُذل الأمة، ومن واجب جمهوره أن يرفع رأسه بشهادته ومواقفه. أما الاستمرارية فهي فعلٌ متحرّك، يحصل بالتعاهد والإصرار والنيّة على المتابعة، وهي فعلٌ تظهر نتائجه العملية بعد فترة زمنية، لأن شهادة السيد تمثّل منعطفًا في مسار التاريخ وفي صناعته وكتابته.
إنّا على العهد| المدينة الرياضية تتجهّز ليوم التشييع المهيب..المشهد الإعلامي وأعمال الصيانة pic.twitter.com/zmmQTqAlvc
— قناة المنار (@TVManar1) February 19, 2025
كيف يتمظهر التحدّي خلال يومٍ وداعيّ؟
ستعمل الجماهير على إبداء التحدي والجهر به من خلال إبداء الاستعداد لأي تضحية، ومن خلال الجهوزية العالية لأي مسؤولية ومشاركة، (سواء كانت مسؤولية سهلة أو صعبة). يتمظهر التحدّي أيضًا، من خلال امتلاك العزم على متابعة الطريق والإصرار على الانتقام لشهادة السيد من العدو الصهيوني وأتباعه.
من الطبيعي أن يتماثل يوم تشييع شهيد الأمة مع يوم العاشر من المحرم حين تخرج الجماهير الملتاعة لتعبّر عن الحزن والولاء والقسم بأنها ستبقى على العهد، فهو يوم الوفاء القليل لمن كان حضوره كبيرًا، ليس على مستوى لبنان واللبنانيين فقط، بل على مستوى العالم وكل مؤيدي خيار التحرّر والمقاومة والمعادين للمشروع الصهيوني.
تحمّل المسؤولية
تحمّل المسؤولية التي تركها استشهاد السيد واجب على الجميع، وهي مسؤولية لا ترتبط بزمان أو مكان، بمعنى أن المطلوب ليس تحمّل المسؤولية خلال يوم التشييع، بل هي مسؤولية بدأت مع استشهاد سماحته، وتستمر إلى آخر الحياة، عمر هذه المسؤولية من عمر الرسالة، وقد تركت دماؤه أمانةً كبيرة في أعناق الجميع.
يتمثّل حمل المسؤولية في أن تكون الجماهير على صورة قائدها: كيف كانت أخلاقه ومواقفه وكلماته وروحيته أكون مثله. ماذا كانت قضيته ومشروعه ومواقفه؟ أكملها كما أراد، وكما كان يكرر في كل مناسبة.
4 أيام لمواراة الشمس pic.twitter.com/8BsPTh0hLI
— قناة المنار (@TVManar1) February 19, 2025
الثأر والغضب
لا شك أن الجميع من دون استثناء يريد الثأر لروح سماحة السيد، ولكن كيف نبلور هذا الشعور الانفعالي لنجعله قيمة جهادية؟ في يوم التشييع سيعيش الناس مشاعر متناقضة في المظهر، لكنها متشابهة في الجوهر. وهي مشاعر استعدّ لها الناس طيلة خمسة شهور، فيما حاول البعض إنكارها أو إبعادها، إن الثأر من العدو واجب ومطلب.
ويجب أن يبقى حاضرًا مهما كان الحصار صعبًا، وخير دليل على الثأر والغضب هو الفعل الذي قام به المجاهدون والمقاومون على الجبهات وفي الخطوط الأمامية، حين امتلكوا روحًا قتالية نادرة في الشجاعة والاستبسال، وكذلك الناس حين صمدوا وصبروا معتبرين تضحياتهم جزءًا بسيطًا جدا من تضحيات قائدهم، وهذا يعني تحويل الثأر والغضب نحو هدفٍ جهاديٍ راقٍ يسمو بالنفس والمشاعر والمعتقدات.
الاستلهام من مواقفه
مناسبة تشييع السيد الأقدس مناسبة للتأسيس لفكرة استلهام سيرته. لماذا الاستلهام من مزاياه وخصاله؟ للبحث عن التعويض، الذي يكمن في إكمال دوره ورغباته، وهذا بالفعل نوع من التعويض النفسي المندرج ضمن آليات الدفاع التي يلجأ إليها الفرد في مواجهة الأزمات؟ هذا ما يتطلّب من الفرد البحث عما كان يحب فعله، لماذا؟ كي أفعل مثله.
في أي المواقف والمواضيع؟ نسوق بعض الأمثلة: التبيين في مواضع الاشتباه، المحافظة على المعنويات العالية، الاهتمام بشؤون التربية وأدوار الأفراد في الأسرة، الدعوة الدائمة للوحدة بين المسلمين، جعل فلسطين أولوية، مناصرة المظلوم وخدمة الآخرين، وغيرها من المواقف التي أكد عليها السيد الشهيد.
المصدر: مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير