ثلاثُ غاراتٍ في بليدا لم تنَل منه… المقاوم الفدائيّ راغب – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

ثلاثُ غاراتٍ في بليدا لم تنَل منه… المقاوم الفدائيّ راغب

خاص-Recovered
إيمان بشير

تعرض قناة المنار شريطًا لبيان عمليّة المقاومة الإسلاميّة. يجلس راغب أمام التلفاز بعد عودته من تنفيذ العمليّة. يقرأ البيان وبسمة الفخر تعتلي وجهه. قبل قليل، كان هناك يرمي ذاك الصاروخ ضدّ الدروع، على بُعد أمتار من الشريط الحدودي. يستذكر مروره على الحافة الأماميّة، قبل بدء حرب طوفان الأقصى، حيث كان ينظر بحسرةٍ إلى مواقع العدو الإسرائيليّ وتحصيناته.

وتُسيطر على المشهديّة كاميرات العدو وأجهزته التجسّسيّة كلّما أزاح ستار النافذة المقابِلة. يكتم غضبه لتعدّي العدوّ. يعود بالذاكرة إلى مشاهد الدبابة خلف السياج. لطالما سأل نفسه، هل سأطلق بيدي صاروخًا لأحرقها؟ لا سيما في تلك اللحظات التي كان يتبجّح فيها الإسرائيلي بدبابة الملك. كانت رؤية الدخان يتصاعد منها، والمواقع قد سوّيت أرضًا، حلمًا بالنسبة لراغب ورفاقه، يشتدّ مع كل جلسة تحاكي تدمير المواقع الأماميّة، على الحدود مع فلسطين المحتلّة.

 

ذاكرةٌ من بداية المعركة وروحية الشباب

«المقاومة عملت بيان عشان الصاروخ يلي رميته؟ يعني سماحة السيّد مبسوط. الصاروخ أصاب الهدف، الإسرائيلي عمل رد فعل عنيف بناءً لواحد، إثنين، ثلاثة». يقول راغب واصفًا مشاعره ورفاقه في تلك اللحظة، «بحسّ الواحد بدّو يشوف حالو على حالو. البيان من جهة، الهدف يلي نصاب بالرغم من الإطباق الاستخباري، يمكن الصاروخ يلي نضرب من الشباب كان جزء من معادلة جديدة حطّها السيّد، شعور رائع…». في لحظة تنفيذ المهمّة، يتضاعف البأس، المنفّذ هنا فدائيّ استشهادي. يستحضر المقاوم فكرة الاستشهاد منذ لحظة خروجه من المنزل، يحتمل أن يكون خروجه الأخير. «في مديات بالسلاح، حتى بالمناطق غير الحدوديّة، احتمال الشهادة وارد على الدوام». يُقدم راغب لإتمام المطلوب بشغفٍ وإخلاص عاليين، لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر بالعدو. حينذاك، «تنسى الدنيا وما فيها». يشرح تلك اللحظات التنافسيّة، «كنا نغار من بعض، إذا حدا شجاع أكثر، إذا حدا رمى صواريخ أكثر. الواحد فينا بدو يحصّل أكبر عدد من القتلى الإسرائيليين». يشعر راغب، بعد تنفيذ كلّ عمليّة، بالثأر لأطفال غزّة، وللشهداء في فلسطين ولبنان «وجودي على الجبهة يتعزّز مع كل مشهد لمجزرة جديدة».

 

 رماية الصواريخ وتنفيذ العمليّات

في 8 تشرين الأول/أكتوبر، تحقّق الحلم. أخيرًا، دخلنا مرحلة التنفيذ. صحيح أنه نمط عمل جديد في الحرب، إلا أن المقاومة على جهوزية دائمة في الحافة الأماميّة. وقد وضعت القيادة المقاومين، منذ الساعات الأولى، بجميع الفرضيات الممكنة. كان الحبّ للبقاء في الخدمة غير مسبوق. الروحيّة كانت عالية، «الأخ كان مفروض يبقى أسبوع، يقعد عشرين يوم ما بدو يفل، صرلي سنين ناطر هيدي اللحظة بدك ياني فل؟». لا يخفي راغب فُرادة الحرب مع الإسرائيلي، «أنت تُقاتل الرأس». معركة لا تُشبه المعارك مع الجماعات الإرهابيّة. يحدّثك عن صناعة معادلة الردع، وتقييد الإسرائيليّ، وإجباره على الالتزام بخطوطٍ حمراء، مهما بلغت عنجهيّته. أكمل راغب الخمسة أشهر قبل إصابته، أغلبها أيام خدمة. يحثّه مسؤوله، الشهيد إسماعيل علي الزين (راغب)، على المغادرة. يرفض بتسليمٍ ويقين، ثمّة شيء ما يحضّه على البقاء، على الرغم من التمركز في بقعة تدوّي فيها الغارات بين الحين والآخر، وتسقط على إثرها المنازل المجاورة. يتحطّم زجاج الأبواب من حوله، من دون أن يرتدّ طرفه، أو أن يُلقي بالاً لها.

 

 زيارة عاشوراء والكورنيت، عهدٌ ووفاء

مع ارتقاء كلّ شهيد أمام أعينهم، تزداد الألفة بين راغب ورفاقه. يقول أحدهم له «قم وحضّر لنا الطعام، لا نعلم متى نفقدك». يستذكر عبارة صديقه الشهيد، تلك صارت واقعًا وحقيقة. تشعر بذلك أكثر عندما تفقد رفيقًا كنتَ تُشاطره الطعام قبل ساعات. عمل راغب في تنفيذ مهام مختلفة، في مجاله ضدّ الدروع، وفي مجالات أخرى. ساهم في خدمة المقاومين. لم يمنعه اختصاصه المعقّد من أن يحضّر لهم مائدة الطعام، أو أن يُنظّف ملابسهم. يجسّد راغب بسلوكه وبقوّة العارفين، آية رحماء بينهم، أشدّاء على الكفّار. يبتسم، لعلّه تذكّر أُنس شهيد كان يتكّئ عليه بقراءة الدعاء. راغب معروفٌ بصوته العذب، هو ممّن يعشق المقاومون صوته. كانوا يطالبونه بتلاوة القرآن «ليتروحنوا» صبيحة كل فجر. ذاك العسكريّ الشجاع، نفسه، يخجل عندما تسأله عن موهبته فلا يعترف بها، «بقولوا صوتي حلو، أني بعرفش».

أثناء تواصله مع صديقه قبيل ذهابه للخدمة الأخيرة، أخبره راغب بشعورٍ غريب «حاسس هالمرة غير، ناطر الصبح ليجي وأنا مبسوط، عم ضبّ الشنطة ومبسوط، هالمرة عندي إخلاص كتير كبير». يتلقّى راغب اتصالاً من المسؤول المعني، عليك أن تذهب إلى مكانٍ جديد في بليدا. وصل راغب إلى البلدة قبل أيام من إصابته. حينذاك، كانت القرية تتعرّض لنيرانٍ كثيفة. سار بين شوارعها حاملاً شنطته وقد تغيّرت معالمها. قرّر ورفيقه البقاء في منزلٍ مهدّم جزئيًّا إلى حين طلوع الفجر. وضع الأغطية على النوافذ المدمّرة، جهزّ المكان للمنامة، بما تيسّر. في اليوم الذي تلاه، التقى راغب بشبابٍ من الهيئة الصحيّة في مركز البلدة، تناولوا الطعام سويًّا. دخلت أُلاطفهم، كان في معادلة، يقول راغب ممازحًا، «الجوّ عندكم رايق، بتضوّوا وبتفتحوا شبابيك، اليوم جاي نام عندكم». ما هي إلا ساعات قليلة، حتى سمع دوّي غارة مجاورة. أولئك الذين كان يمازحهم قبل ساعات، استشهدوا جميعًا…

 

 اتصال مُفاجئ فجر 15 شعبان!

في صباح يوم الخامس عشر من شعبان، تلقّى راغب، وهو صائم، اتصالاً لطلب مهمّة. خرج من المنزل وحده، بعد محاولته الحثيثة لإقناع الشاب الذي يُرافقه بعدم الخروج معه. «خرجت وصوت المسيّر قوّي جدًا». اتخذت الإجراءات الوقائيّة اللازمة. من نقطة إلى أخرى، استغرق الأمر 45 دقيقة للوصول إلى مسافة لا تتجاوز الـ80 مترًا. حين وصل راغب إلى الشاب الذي يُفترض أن يلتقيه، وبعد تنفيذ جزء من المهمّة، سمعا على الجهاز من غرفة الإشارة أن «المسيّر مُركّز» فوق بليدا. تموضعا في مكانهما. تبادلا الوقت لإقامة صلاة الظهر في بيتٍ مجاور تحت الركام. مجددًا تكرّر النداء بوجود مسيّرات مركّزة فوق البلدة. شكّ راغب في أن تكون المسيّرات قد رصدتهم أثناء ذهابهم إلى البستان. وصلا إلى نقطة مخفيّة، وجدا الشهيد علي ناصر (فداء) وهو يحتمي من المسيّرات ذاتها. تبادلا الأحاديث حول الصيام والشهادة، يقول فداء «هذه الدرون لنا». رفع راغب رأسه للسماء، وفي لحظة، ملأ عصفٌ انفجاري المكان. «لم أشعر بشيءٍ سوى بطنينٍ في إذنيّ، وبجسدي يُحلّق في الهواء». فتح راغب عينيه ليجد نفسه ملقيًا على الأرض. صار يمسح بيديه عليهما، وضحت الرؤية قليلاً في العين اليُسرى، إلا أن كلّ المحاولات لإزالة الغبار والدماء عن العين اليُمنى لم يُجدِ نفعًا للإبصار بها.

أدرك راغب أنها غارة حربيّة، زحف بيديه نحو حائط منزلٍ مجاور. أثناء ذلك، أغار الطيران الحربي للمرّة الثانية. العصف الانفجاري والغبار من جديد. «كل نفس آخدو قول هيدا آخر نفس، ثم أبصق الدماء». تحسّس جسده، شعر بكل شيء إلا بساقه اليُمنى. سحبها من تحت الركام. نظر إلى الشاب من جانبه، «ماشي حالك؟» ألقى الأخير بيده على صدره، ففهم أنه ما زال على قيد الحياة. ما إن وصل مسعفو الهيئة الصحيّة، حتى رمت مسيّرة صاروخًا لمنعهم من تأدية مهمّة الإنقاذ. حينها، مزّقت شظيّة الصاروخ ساق راغب اليُمنى. حاول الوقوف مستعينًا بجذع شجرة. صعد بصعوبة إلى سيارة الإسعاف، وقد دُمّر زجاجها من جسامة الغارة. أمّا فداء، فقد استُشهد.

«أشهى من النوم، لم أشعر بشيء». يصف راغب وقع الغارات الثلاث عليه، على الرغم من هول الحادثة، وبقائه مستيقظًا شاهدًا على ثُلاثيتها. عند وصوله إلى مستشفى صلاح غندور، سمع راغب من المسعفين، على الرغم من تضرّر إذنيه، بأن وضعه بات حرجًا. الساق مصيرها البتر، ونزيف في الرئتين. كان جلّ همّه طمأنة والدته. طلب هاتفًا خليويًّا للاتصال بها. سبق وأن تعهّد لنفسه بأن يُخبرها هو بإصابته. أم راغب ثابتة في مواجهة الجراح، تضحياتها في مسيرة المقاومة ليست بجديدة. طمأنها، ثم غفى بفعل المخدّر لنقله إلى بيروت. بعد مرور أربعة أيام في العناية المشدّدة، استيقظ راغب وجهاز التنفّس على وجهه. طلب ورقةً وقلمًا للكتابة. دوّن لصديقه «أذّن؟ صايم بدي اشرب ميّ»، ثم سأل عن عائلته وحال والده. مهما كان الأبّ صلبًا متماسكًا، يضعف لتعلّقه بابنه الجريح، يتألم لألمه، حتى صار راغب هو من يُخفّف عنه «أنا مبسوط، الله أعطانا وسام». أُوقف النزيف في الرئتين بصعوبة. زُرعت عظام وأسياخ في ساقه، وتُلفت العين اليُمنى بشكل كامل…

 

 أبي هل أنتَ ذاهب إلى الحرب؟

لم يسمح راغب للإصابة بالتغلّب عليه. تُرافقه عينه اليُمنى كعلامةٍ فارقة من الميدان، تشي بما قدّمه من شبابه إليه. كلّ من نظر إلى وجهه، أدرك حجم الدَّيْن الذي نحمله، لمثل هؤلاء، في أعناقنا. سرعان ما حاول قيادة الدراجة الناريّة والسيارة بمفرده، والتأقلم مع الإصابة في حياته اليوميّة. وهو إلى جانب ذلك، يستكمل مسيرته الجهاديّة. لا ينسى بيئة المقاومة من حديثه «صمودهم أسمى من جراحنا». يحدّثنا بشوقٍ عن علاقة الأبوّة التي كانت تربطه بمسؤوله الشهيد اسماعيل الزّين (راغب)، وبالشهيد خليل شحيمي (سراج).

 

عن العلاقة الأبويّة مع الشهيد إسماعيل الزّين (راغب)

بعد جهدٍ لقبوله إجراء المقابلة، تظنّ أنك ستُقابل رجلاً عسكريًّا يرتبك أمام الكاميرا. هو، بالفعل، يكره الظهور. يُفاجئك بحنكته، وطلاقة حديثه. يُشغلك بالرواية من دون أن تُضطر إلى الشروع في بقيّة الأسئلة. يوجّه الحديث بمنهجيّة، يستبق المَحاوِر، حتى يطغى عليك! يُدرك راغب جيّدًا تفاصيل الصورة، يسأل عن الـ(frame) ليُعدّل من جلسته. يدوّن أفكاره على ورقة، لا لشيء، سوى لتذكّر أسماء أصدقاء له، ارتقوا شهداء دون أن ينسى أحدًا منهم. تعتقد أنه مقاتل ضدّ الدروع، بارعٌ في مجال الصواريخ لا أكثر. تجدُ نفسك أمام مقاوم يرسم المشهد السياسيّ والفرضيات المُمكنة. يفقه في الدين كما في العائلة والإعلام والتدريب والعسكر. يُهندس كل تفصيل في روايته بدقّة، كدقّة الرماية. كما كان في العين تلك، يُدقّق بالهدف. هو من أولئك «الرُماة الماهرون». صحيح أنه خسر إحدى عينيه، لكن في الحقيقة، عينُ العدو هي التي أُطفئت.

 

وفي رسالة لسماحة الأمين العام، السيّد حسن نصر الله، جدد راغب العهد بالمضي على درب المقاومة حتى النصر أو الشهادة، مع أمنية خاصة.

 

المصدر: الاعلام الحربي