جعفر خضور / باحث سياسي
بدءاً، الحديث عن التقارب السوري – التركي متواتر وبازدياد، الرغبة تبدو كبيرة في خطوة التقارب والمصالحة. لكن واقعيّة الأمر لا تزال غير واضحة من الجانب التركي. المفارقة في الرؤية لتفكيك المشاكل الناتجة عن تراكمات الحرب السورية والدور التركي المدمّر الذي سعى للتغيير الديمغرافي و”التتبيع” الذي يرجع أمجاد الإمبراطورية العثمانية ويستذكر نظرية “الرجل المريض” التي ابتنى عليها أميركياً وبريطانياً خلق كيانات في المنطقة (إسرائيل).
يدفع للتروّي في قراءة حسن نية التركي، أو وجود مؤشر على الأقل في ذلك. الموضوع ليس مهمّاً بذاته لذاته فحسب، بل بمدى جدية وعمق الرغبة في الوصول لحل يندرج في أفق الرؤية السورية لفكفكة عقد هذا الملف. وبتقديري، أنّ التسلسل المنطقي لتبيان الموقف التركي، الأخير الذي جاء على لسان أردوغان نفسه بقوله: “إعادة النظر في السياسة الخارجية في ظل صراع الأقطاب الكبرى أصبحت حاجة ملحة لنا وليس مجرد خيار.” في المقاربة مع القضية السّورية يشير إلى دور روسي فاعل تصاعد بقربه من المنظار السوري، بالطبع، لأسباب تتعلق بكل الأطراف.
المسألة حيوية، وضرورية للجانبين، ويمكن فهم موقف دمشق بجوانبه المتعددة أنه تفاؤل إيجابي حذر تجلّى ذلك في ما وضعه الرئيس الأسد، ليست شروط تفاوضيّة وفق ما يبدو، بل متطّلبات أساسية، القضية الخلافيّة ليست مجرّد موقف، نتحدث هنا عن إرهاب مدعوم ذا بعد دولي، عن احتلال أرض، وعن ملف بالغ التعقيد، له عدة ارتباطات.
أهمّ نقطتين تحكمان قواعديّة الوسيلة (اللقاء) بين الرئيسين، كمطلب سوري أساسي وثابت يندرج في إطار فكرة رئيسة وهي أفق اللقاء وفق المضمون، والمضمون يتمركز بأمرين، الانسحاب التركي من الأراضي السورية فهذا الوجود احتلالي مباشر وغير شرعيّ وعززه استهداف الهُوية الوطنيّة والانتماء ومدارك الفكر والانتماء، والآخر، وقف دعم المجموعات الإرهابية المتطرفة ومحاربتها ورفع الغطاء عنها. ثمةَ بُعد جوهري في الأمر الثاني، ليس فقط محاربة الإرهاب، بل ما أكدته دمشق وطلبته مراراً، وهو التعريف الواضح “للإرهاب”.
وهنا تأتي ضرورة مقاربة الحل بالنسبة لعقدة “قسد”. الفرق جوهري، هكذا يبدو، دمشق لا تنظر إلى حل هذه العقدة كالنظرة التركيّة، وبالتالي يغدو الحل السياسيّ – الأقرب للتوقع – محوريّاً في معالجة ذلك. من الصعب التنبؤ بمصير هذا المسار، لكن الرغبة السورية ليست الذهاب في حرب أو حل عسكري لهذه القضية بالتحديد. ثمّ ينبع تساؤل مهم، حول ما إذا كان التقارب سيحلّ هذه المشكلة، أي هل أنّ التقارب من شأنه أن يفكفك العقدة الكردية، كطريق للحلّ، أم أنّ منبع التهديد التركي المتمثل في “قسد” هو الدافع التركي لذلك. هذا التساؤل ضروري، وتصعب الإجابة عليه حالياً، لأن الملف له ارتباط أميركي وهذه مشكلة.
الموافقة الضمنية الأمريكية في تقارب تركيا من سورية قد لا تكون قد وضعت أسس لمعالجة ذلك، هذا مستبعد، فتلك ضرورة لأميركا، كما أنها تحيل عدّة أطراف لضرورة وجود خارطة طريق جدّية تستدعي التغيير على طريق الحل، وكيفية النظرة “للكرد” في ذلك. وهو يعتمد بالطبع، على “الكرد” الذين اعتبرت دمشق قضيتهم داخلية سورية، عليهم، من حيث تموضعهم في المستجدات الإقليمية والدولية، وقناعتهم بألا ضمانات أميركية آمنة، وقد تجلّى ذلك في امتناع أميركا عن تغطية انتخاباتهم. أي الخطوة الأكثر نوعية أو لنقل الأقرب نوعية من دمشق هي خطوة “الكرد”، لأن في ذلك معالجة لمدرك يرتبط بخوف تركي، وإمكانية فرض واقع تغيير الصورة من قبل الأميركي. ملف متشابك وحساس.
على الضفة الأخرى، حل المشكلة (الاحتلال، ووقف دعم الإرهاب) هو السبيل لعودة العلاقات لمجراها الطبيعيّ، هنا أساس الحديث، حل المشكلة لعودة العلاقة. ويبدو ضرورياً التساؤل عن مصير “الإرهاب”.
بتقديري هنا، أن البعد الدولي لارتباطات الإرهابيين في الشمال السوري يلعب دوراً أساسياً في ضرورة التحرك الميداني الذي يؤكد نية تركيا في اتباع مسار آخر يتخطى الفقاعات الإعلامية، ويؤكد نيتها في التقرّب من دمشق؛ لعل اعتبار تركيا لبسط السيطرة السورية على المناطق الخاضعة للإرهاب وتسليمها إليها، يعدّ خياراً مفضّلاً لها (أي تركيا) – لكونه “الأقل ضرراً”.
هذه الجماعات متعددة مناشئ ومشارب الدعم والحضور، أعطت بردة فعلها على التقارب صورة أكثر وضوحاً عمّا يمكن أن تفعله فيما لو وجدت نفسها على محك التخلّي والإطاحة بها. وهذا ما يقرؤه التركي جيداً، وبالتالي المهدد الأمنيّ وفق اعتقادي هو الوسيلة الأكثر أولوية على طريق الحل، وهو ما يتطلب تنسيقاً عالي المستوى والدقة للمعالجة، وما يجري الآن يدعم تقييمنا هذا، طبيعة المحادثات أمنية – عسكرية برعاية روسية، في حضور عراقي في الشَق السياسي ومباركة عربية.
علاوةً على ذلك، الوسط المجتمعي حانق على الجولاني داخل إدلب، هذا أيضاً معطى آخر، الإجحاف الذي تمارسه سلطات الارهابيين المستحدثة هناك أصبحت تنهب وتسرق ورفعت تسعيرة الولوج عبر المعابر الغير شرعية التي يسيطر عليها الجولاني، وهذا يدل ربما على استشعار هذا الإرهابي بقرب نهاية جولته ودوره.
وعليه، تلعب المهددات الأمنية، ملف اللاجئين، ضبط الحدود، والدوافع السياسية والأمنية والاقتصادية لتركيا كممر بري من سورية نحو الخليج، ولسورية في حل مشاكل الاقتصاد الداخلي وتوفير ظروف العيش وإعادة الإعمار لتمكين أفق سوري مجتمعي يستند لمخرجات ومعالجة مدارك الخطر والتهديد. باختصار التقرّب التركي – السوري هو ضرورة للبلدين، وقناعة بضرورة إخراج سورية من أزمتها، التي تمدّدت لتركيا وخلقت واقعاً يسلّم بصمود الدولة الوطنية السورية والتعاطي بواقعية مع مجمل الأحداث، وهو في طيّاته رغبة بالتوسُّط في منظومة تضمن حالة استقرار إقليمي على المستويين القريب والمتوسط. والأهم من كلّ هذا أنّ الثوابت السورية لا تغيير أو تبديل فيها، فالمسألة مرتبطة بالأرض والأمن الوطني والقومي والاقتصادي في آنٍ معاً، وهو ما يتطلب اتفاقات واضحة وبيّنة وفق ضمانات دولية لتثبيت قواعد ثقة على أرضية التفاهم وفق استراتيجيات واضحة المعالم لا سيما تركياً.
المصدر: بريد الموقع