إنّ واقعة غدير خم هي واقعة مصيريّة ومهمّة جدًّا في تاريخ الإسلام. ويُمكن النّظر إليها من حيثيّتين أو بعدين: الأوّل يختصّ بالشّيعة، والثاني يرتبط بجميع الفرق الإسلاميّة. وبالنظر إلى البعد الثاني لهذه الواقعة، يجب إيجاد هذه الرّوحيّة وهذا الشّعور عند جميع مسلمي العالم، وهو أنّ عيد الغدير الّذي يُذكّر بهذه الواقعة الكبرى ليس مختصًّا بالشّيعة.
– البعد الأوّل : البعد المختص بالشيعة:
يختصّ بالشّيعة، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة قد نُصّب للخلافة من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وفي ذلك اليوم وفي تلك الواقعة سُئل رسول الله: يا رسول الله، هل إنّ إعلانك هذا هو من نفسك أو من الله؟ فقال: “من الله ورسوله”[1]، أي إنّه أمرٌ إلهيّ، وكذلك هو منّي. فالشّيعة تُعظّم هذه الواقعة من هذه الجهة، لأنّ اعتقادهم بأنّ الخلافة المباشرة هي لأمير المؤمنين عليه السلام وترتبط بهذه الواقعة أكثر من سائر الدلائل. بالطّبع، إنّ البحث في مجال الاستنباط والاستدلال على هذه الواقعة في الكتب الكثيرة والمتنوّعة على مرّ تاريخ الإسلام، قد استمرّ من اليوم الأوّل وإلى يومنا هذا. ولا أنوي هنا أن أُضيف شيئًا على ما كتبْته وذكرْته آلاف الألسنة والأقلام بشأن هذا المطلب.
– البعد الثاني: البعد المشترك بين المسلمين:
(وهو) لا يقلّ أهمّية عن البعد الأوّل، فهو أمرٌ مشتركٌ بين الشّيعة والسنّة.
إنّ البُعد الّذي هو مورد نظري، البعد الدّوليّ الإسلاميّ والمتعلّق بالفرق الإسلاميّة الّتي لا تنحصر بالشّيعة، هو أنّه لو فرضنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الإعلان، الّذي حصل حتمًا، وقد صدر عنه هذا الكلام، لو فرضنا أنّه لم يُرد أن يُبيّن أنّ خليفته المباشر هو أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه بالحدّ الأدنى أراد أن يُثبّت الولاء والرّابطة العميقة للمسلمين مع أمير المؤمنين عليه السلام وعترته. والسبب في أنّ النبيّ قرن عترته بالقرآن، سواء في خطبة منى أو في حديث الثقلين ـ وعلى ما يبدو أنّ هذا الحديث قد صدر عن النبيّ عدّة مرّات – وأيضًا في حديث الغدير وفي هذه الواقعة – الّتي يُركّز فيها على أمير المؤمنين عليه السلام وشخصه، إنّه أراد أن يُثبّت هذه الرابطة من أجل أن يُظهر للنّاس، وعلى مرّ الزمان، نماذج كاملة للإنسان الّذي يريده الإسلام، ويكون ذلك لجميع الأجيال الآتية. فيجعل النموذج الكامل للإنسان بصورة مجسّمة وعينية بحالاته الواضحة الّتي لا شكّ فيها أمام أعين جميع البشر، وليقول إنّ التربية الإسلاميّة ينبغي أن تكون في هذا الاتّجاه، وإنّ شخصّية الإنسان المسلم هي تلك الشّخصيّة الّتي تجعل غايتها ونموذجها هذا الإنسان الكامل.
هؤلاء الّذين كانت طهارتهم وعلومهم وتقواهم وصلاحهم وعبوديتهم لله، واطّلاعهم على القضايا الإسلاميّة، وتضحيتهم وشجاعتهم من أجل تحقّق الأهداف والقيم الإسلاميّة، وإيثارهم واضحٌ بيّنٌ للجميع. لقد تمّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام كأنموذج يمكن للنّاس أن يرتبطوا به، سواء كان في ذلك الزّمان أو في الأزمان الآتية. وهنا، وإن لم تتحقّق الخلافة المباشرة عمليًّا إلّا بعد مرور 25 سنة، فإنّه في النّهاية صار خليفة النبيّ، وثبّت مقام إمامته، وقبل به جميع المسلمين، كفردٍ، إمامًا للمجتمع. هذه الخصوصيّة، وهذه الرّابطة الموجودة عند جميع المسلمين مع هذه الشّخصيّة، الّتي يقبل الجميع أنّها خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلّ ما هنالك أنّ بعض النّاس يقول إنّه الخليفة المباشر، وبعض يعتقد بخلاف ذلك، وإنه خليفة بعد 25 سنة ـ هذه الشّخصيّة الّتي يقبل جميع المسلمين بها على أنّها خليفة، يجب أن تكون لجميع المسلمين أنموذجًا خالدًا وقدوةً كاملة للإنسان الإسلاميّ. ويجب أن تبقى هذه الرابطة بينه وبين جميع المسلمين وإلى الأبد كرابطة فكريّة واعتقاديّة وعاطفيّة وعمليّة.
فمن هذه النّاحية، لا يختصّ أمير المؤمنين عليه السلام بالشّيعة، بل هو لجميع المسلمين. كما أنّ هذا الكلام لا يختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام، بل يشمل العترة الشّريفة وأئمّة الشّيعة الّذين هم من أولاده، الّذين هم أيضًا من العترة، والّذين يجب أن يبقوا دائمًا كنماذج كاملة للإنسان الإسلاميّ في أعين المسلمين. هذه قضية.
وبجعل العترة إلى جانب القرآن، وبالإعلان عن ضرورة الارتباط بين المسلمين والعترة، بيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة الموقفَ تجاه كلّ أنواع التّحريف الّذي سيتعرّض له القرآن، والانحراف عن المفاهيم القرآنيّة الأساس. فحينما تقوم الأجهزة الجائرة بتحريف المفاهيم الإسلاميّة من أجل منافعها، وتُسيء إلى معاني القرآن، وتُفسّر القرآن بصورةٍ خاطئة، وتُضلّ المسلمين وتحرمهم من فهم الدّين الإسلاميّ، فإنّ ذاك المرجع والمحور والقطب، الّذي ينبغي أن يوعّي النّاس حول الحقيقة والمفاهيم والمعارف الصحيحة، ويُنجّي النّاس من الضلالة، وعليهم أن يستمعوا له، هو العترة الطاهرة.
وهذا هو الأمر الّذي يُعدّ اليوم بالنسبة للعالم الإسلاميّ ضرورة ومطلبًا لازمًا. يحتاج جميع المسلمين اليوم أن ينهلوا المعارف الإسلاميّة عن طريق أهل بيت النبيّ، دون فرق بين أن يكونوا معتقدين بأنّ الإمامة المباشرة هي لأمير المؤمنين ولأولاده أو لا. وبالطّبع، فإنّ الشّيعة يعتبرون بأنّ العقيدة الحقّة والاستفادة القطعية من هذا الحديث هي الخلافة المباشرة، فهم يعتقدون بذلك ويتمّسكون به. والّذين لا يعتقدون بذلك ولا يتمسّكون به – أي الإخوان من أهل السنّة – لا ينبغي أن يقطعوا رابطتهم الفكريّة والعقلانيّة والاعتقاديّة والعاطفيّة بالعترة وبأمير المؤمنين عليه السلام. لهذا فإنّ قضية الغدير من هذا البعد الثاني، الّذي هو بعد إيجاد الرّابطة بين عليّ بن أبي طالب وعترة النبيّ من جهة وبين جميع المسلمين من جهة ثانية، هي قضيّة لجميع المسلمين.
[1] الطبرسيّ، أحمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق وتصحيح محمد باقر الخرسان، نشر المرتضى، مشهد، الطبعة الأولى، 1403هـ، ج1، ص 82.المصدر: شبكة المعارف الاسلامية