خطبة الجمعة 09-02-2024: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
نص الخطبة:
يقول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا).
الاية تشير الى خمس صفات للنبي (صلى الله عليه وآله):
الاولى انه شاهد على اعمال الامة، والثانية: انه المبشر، والبشير هو الذي يأتي بخبر او امر مفرح، والثالثة: انه النذير الذي يبين العواقب الوخيمة التي تترتب على الكفر والانحراف، والرابعة: ان الداعية الذي يهدي الناس الى الله، والخامسة: انه النور الذي يستضيء الناس به كالشمس التي تشع نورا على الكون.
ولان كل صفة من هذه الصفات ربما تحتاج الى خطبة مستقلة، سأقتصر في هذه الخطبة على الحديث عن الصفة الاولى.
الصفة الاولى هي الشهود على الاعمال: (إنا أرسلناك شاهدا) فهو يشهد على أعمال أمته، لأنه يرى ويشاهد ويطلع ويعلم بأعمالهم وتصرفاتهم وسلوكهم في الحياة، كما يقول تعالى في آية أخرى: (وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). والمقصود من المؤمنين كما ورد في الرّوايات الكثيرة، ليس جميع المؤمنين، بل فئة خاصّة منهم، وهم الذين يطلعون على اعمال العباد وعلى الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى، وهم الائمة المعصومون (ع).
فالآية تؤكد ان الله ورسوله والمؤمنين، يعني الائمة، يطلعون على اعمال الانسان، فلا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا، سواء في الخفاء أو في العلن فإنّه سيخفى على علم الله والرّسول (ص) والمؤمنين، فان رسول الله والائمة يعلمون به ويطلعون عليه، إِضافةً إِلى علم الله عزَّوجلّ به.
والمقصود بالاعمال هنا كل الاعمال، السيئة والحسنة، والاعمال الطيبة والقبيحة والاعمال الخيرة والشريرة، فكل الاعمال والتصرفات التي تصدر عن الانسان في السر او في العلن يطلعون عليها ويعلمون بها، لان الآية مطلقة (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) عملكم، يعني كل الاعمال، ما قبح منها وما حسن، وما ظهر منها وما خفي .
وطبعا اطلاع النبي(ص) والائمة على الاعمال ليس بالضرورة ان يكون بالطرق العادية والطبيعية اي عن طريق المشاهدة والرؤية الحسية والبصرية، لأن الكثير من الأعمال لا يمكن للنّبي (ص) والائمة ان يعلموا بها بالطرق العادية الطبيعية وعن طريق الرؤية البصرية، إما لانهم ماتوا او لأنّ أكثر المعاصي والأعمال المنحرفة ترتكب في السر، وتبقى مستترة عن الأنظار ولا يعلم بها احد، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضاً تُعمل في السرّ، وتحاط بالكتمان. ولذلك اطلاع النبي(ص) والائمة على الاعمال وانما يكون عن طريق عرض أعمال الأمة على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، بحيث أنّ الله تعالى يعرض أعمال الامة بطرق خاصّة عليهم، فيرونها، او يطلعون عليها ويعلمون بها.
وقد وردت روايات كثيرة تدل على ذلك:
منها ما روي عن الإِمام الصادق (ع) أنّه قال: “تعرض الأعمال على رسول الله، أعمال العباد كل صباح، أبرارها وفجارها، فاحذروها، وهو قول الله عزَّوجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وسكت .
وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر (ع): ” إنّ أعمال العباد تُعرض على نبيّكم كلّ عشيّة خميس،فليستحْي أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح ” .
وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا (ع) ، أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: “أولست أفعل؟ والله انّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة”.
يقول الراوي، فاستعظمت ذلك، فقال لي، “أمّا تقرأ كتاب الله عزَّوجَلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، هو والله علي بن أبي طالب” .
إِنّ بعض هذه الروايات ورد فيها ذكر النّبي (ص) فقط، وفي بعضها علي(ع) ، وفي بعضها الآخر ذُكر النّبي (ص) والأئمّة (ع) ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس، وبعضها جعله كل يوم، وبعضها في الأسبوع مرّتين، وبعضها في أوّل كل شهر، وبعضها عند الموت.
ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة، تماماً كما هو الحال في عمل المؤسسات ، فالاعمال والانجازات والتقارير اليومية تعرض على المسؤولين في نهاية كل يوم، والأسبوعية في نهاية كل أسبوع، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة.
إِنَّ إِطلاع الله ورسوله على اعمال الانسان هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في الآخرة ، لذلك فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وطبعا الاعتقاد والايمان بحقيقة ان الله ورسوله والائمة يطلعون على اعمال الناس والامة، له أثر تربوي عميق على سلوك الانسان ووعلى اعماله وتصرفاته ونياته واستقامته ، لإنّ الإِنسان – عادة – إِذا شعر بأنّ أحداً عاديا يراقبه ويتابع خطواته وحركاته وسكناته، فإنَّه ينتبه الى سلوكه وتصرفاته ويحاول أن يتصرّف تصرفاً صحيحا ، ويسعى كي تكون اعماله وخطواته في الطريق الصحيح وفي خط الاستقامة، حتى لا يؤاخذه من يراقبه على تصرفاته واعماله، فكيف إِذا عرف الانسان واعتقد بأنَّ الله ورسوله والائمة(ع) يطلعون على أعماله وتصرفاته فانه بالتأكيد يصبح اكثر حرصا على ان يكون سلوكه مستقيما وان تكون اعماله صحيحة .
إِذا علم الانسان المؤمن أنّ الله الموجود في كل مكان هو معه يواكبه ويراقبه ويطلع على تصرفاته واعماله، ومعه النبي (ص) والائمة (ع) يطلعون ايضا على كل أعماله، الحسنة والسيئة، والخفية والعلنية، في كل يوم، أو في كل أسبوع، فلا شك أنّه سيكون أكثر مراقبة ورعاية لما يصدر منّه من أعمال وتصرفات، وسيحاول ان يتجنب السيئات والمحرمات والمعاصي ما أمكن، تماماً كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريراً يومياً أو أسبوعياً سيرفع عن أعمالهم إِلى المسؤولين ليطلعوا عليها .
فاذن النبي، اولا: هو شاهد على اعمال الأمة، ارسله الله ليكون شاهدا عليهم يشهد يوم القيامة على اعمالهم وتصرفاتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وخطواتهم التي صدرت منهم، تماما كشهادة أعضاء الإِنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عاش عليها ، وشهادة ملائكة الله على أعماله وتصرفاته وخطواته، ومع كل هذه الشهود لن يستطيع العصاة والمذنبون إِنكار اي حقيقة من الحقائق التي يشهدون بها، ولن يتمكنوا من تخليص أنفسهم من نتائج أعماله والافلات من العقاب الذي اعده الله للعاصين.
وثانيا: هو شاهد ايضا على الأنبياء السابقين الذين كانوا شهودا على أممهم، يقول تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا).
وثالثا: ان وجود النبي(ص) بما يملك من ايمان وصفات وأخلاق واعمال وانجازات وقيم وتعاليم وتاريخ مشرق ومشرف، وشاهد على أحقية دينه ورسالته، هذا الدين الذي قارع المستكبرين والطغاة وجردهم من كل امتيازاتهم في المنطقة وقضى على انظمتهم الجاهلية، وألحق هزيمة مدوية بكل الجماعات والتحالفات التي وقفت بوجهه وتمكن من صنع انتصارات وانجازات عظيمة لخير امة اخرجت للناس.وكل انتصاراتنا وانجازاتنا على مر التاريخ والى الان كانت تستند الى قيم وتعاليم وقوة هذا الدين وانتصاراته وانجازاته .
الثورة الاسلامية في ايران التي نعيش ذكرى انتصارها هذه الايام كانت تستند الى مبادىء وقيم وتعاليم الاسلام، تعاليم الاسلام هي التي دفعت الامام الخميني والشعب الايراني ليخرجوا ويصنعوا هذه الثورة المباركة وليقتلعوا النظام الشاهنشاهي البائد والفاسد وياسسوا لنظام الجمهورية الاسلامية واقامة الحكومة الاسلامية .
انتصار الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني كان صفعة قاسية لاميركا التي كانت تتخذ من ايران قاعدة لها في المنطقة وتحمي الشاه وتحافظ على نظامه الدكتاتوري المستبد ليكون اداة في تنفيذ سياساتها في المنطقة وليقوم بدور الشرطي فيها.
لقد استطاع الشعب الايراني ان يوجه ضربة كبرى الى الولايات المتحدة من خلال ثورته المباركة ومن خلال صموده وثباته بوجه حصارها وعقوباتها المفروضة على ايران، واصبح ينظر ومعه معظم شعوب المنطقة الى امريكا على انها عدوة لشعوب امتنا بسبب احتلالها وجرائمها وعدوانها وسياساتها الاستكبارية والارهابية في المنطقة ، ودعمها الامحدود للكيان الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة .
اليوم الولايات المتحدة الامريكية لم تكتف بعدوانها على الشعب الفلسطيني من خلال الحرب المستمرة على غزة بل تتمادى في عدوانها لتطال كل من يساند المقاومة والشعب الفلسطيني المظلوم، والعدوان الامريكي على العراق وسوريا واليمن، هو عدوان على كل الأمة، وانتهاك صارخ لسيادة وكرامة هذه الدول، ومن حق شعوب ودول هذه المنطقة ان تدافع عن نفسها، وأن تقاوم الاحتلال الامريكي وان تفعل أي شيء لانهاء الوجود الأميركي في المنطقة.
يجب ان يعلم الامريكي والبريطاني ان العدوان على المنطقة لن يغير من مواقف شعوب امتنا المتمسكة بنهج المقاومة والتحرير، ولن يثني حركات المقاومة في المنطقة عن مواصلة دعم وإسناد الشعب الفلسطيني المظلوم، وكل التهديدات والاعتداءات والاغتيالات والوساطات لن تزيدهم الا إصرارًا على مواصلة هذا الطريق.
اليوم خيار استمرار العدوان هو خيار بلا افق، لان العدو وصل الى طريق مسدود، وفشل امام ثبات وإرادة المقاومة، واستمرار العدوان لن يؤدي الا الى المزيد من الفشل والهزائم، ولن يتمكن العدو من تحقيق اهدافه، وليس هناك من خيار سوى وقف العدوان والذهاب نحو الحل والقبول بشروط المقاومة .
المصدر: موقع المنار