نص الخطبة
يقول الله في كتابه الكريم:﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ، وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ البقرة: 153 – 157.
هذه الآيات من سورة البقرة، تطلب من المؤمنين خصوصا عند مواجهة الضغوط والتحديات والازمات والقتل والخوف والفقر والمصائب والاحداث المختلفة ان يستعينوا بالصبر والصلاة.
وخلافا لما قد يتصور بعض الناس، الصبر لا يعني الاستسلام او الانهزام امام الضغوط والاحداث المختلفة ولا التراجع او الخوف ، ولا يعبر عن حالة سلبية لدى الانسان ولا عن ضعف في ارادة الانسان، بل الصبر يعبرعن قوة الارادة لدى الانسان، والصابر هو انسان يملك قوة الارادة التي تجعله يقاوم ويثبت ويصمد أمام كل الضغوط والاحداث والمشكلات التي تواجهه في هذه الحياة.
الصبر يمنح الانسان قوة الارادة التي تجعله يتحكم باي حركة وباي فعل او اي موقف ويعطي الانسان فرصة ومجالا لكي يفكر في هذا الموقف هل هو موقف صحيح ام خطأ هل ينسجم مع ديني وتكليفي ام هل يدخلني الجنة او يدخلني النار ؟
الانسان قد يغضب بسرعة ويتصور انه اذا غضب وتصرف على اساس غضبه وانفعاله سيحل المشكلة لكنه في الواقع يعقد المشكلة.
مثلا اذا حصل سوء تفاهم بينه وبين زوجته او بينه وبين جاره او بينه وبين اي شخص اخر وغضب وامتلأ قلبه عيظا وحقدا فهو يظن انه بالغضب يحل مشكلة قلبه الذي امتلأ غيظا، فيضرب زوجته او جاره او زميله او يرفع المسدس ويطلق النار وقد يجرح وقد يقتل، هذا الانسان يتصور انه ارتاح لانه نفس عن حقده بهذه الطريقة (فش خلقو) لكنه من خلال عدم الصبر انتهى من مشكلة ودخل في مشاكل اخرى كثيرة، بينما لو صبر وفكر في الموقف الذي يجب ان ياخذه لعرف ان هذه الممارسة خاطئة .
الصبر يعطي مجالا للتفكير بدقة اكثر وبحكمة اكبر، الانسان الذي لا يصبر يوقع نفسه في مشاكل كثيرة .
في هذه الحالة الصبر يعبر عن التصميم والارادة القوية لدى الانسان ولا يعبر عن الضعف او الانهزام.
الامام علي كان اشجع الناس لكنه بعد السقيفة عندما منعوه من استلام الخلافة التي هي حقه سكت وصبر، كان باستطاعة علي ان يفتح معركة بوجههم، ولكنه لم يفعل وانما صبر، ولو انه حمل السيف وفتح معركة ولم يصبر لكان لدمر الامة ودمر الاسلام، فهو وقف بين خيارين بين ان يدمر الاسلام او يسكت عن حقه، فاخنار ان يسكت عن حقه ليس من موقع الضعف او الخوف او الجبن وانما من موقع الصبر، الصبر هو الذي دفع عليا ان يسكت حتى يدرس اين هي مصلحة الاسلام والأمة وما هو تكليفي وواجبي في مثل هذه الحالة .
الانسان المؤمن والجماعة المؤمنة لا تنساق مع العواطف والمشاعر وتبني مواقفها على اساس الانفعال، الانسان لا شك انه يتأئر بالاحداث التي تجري من حوله ويتألم لمشاهد قتل الاطفال والنساء والدمار ولكنه يصبر ولا ينفعل ولا يبني موقفه على اساس الغضب والانفعال والعاطفة وانما يصبر ويتأمل ويدرس الخيارات ويبني مواقفه على اساس المصلحة والتكليف ورضا الله سبحانه وتعالى ، الصبر هنا يفتح مجالا للتفكير ودراسة اين تكمن مصلحة الامة ومصلحة المواجهة، وعدم الانسياق مع الانفعالات النفسية والعاطفية ، الصبر يعي قوة الارادة.
وقد ورد في الروايات ان هناك ثلاث مجالات مطلوب فيها الصبر يعني مطلوب ان يحكم الانسان فيها ارادته: وهي الطاعة والمعصية والبلاء.
ولذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعترضك في طريق الطاعة.
الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرة وعدم الانهيار او الجزع او الخوف والفزع.
الصبر على الطاعة يعني الصبر على الطاعات التي امرنا الله بها كالصلاة والصوم والحج والخمس والامر بالمعروف والتنهي عن المنكر والجهاد وما شاكل وهذه كلها بحاجة الى صبر مثلا صلاة الصبح عادةيكون الانسان في نعاس شديد ومتعب فيوسوس له الشيطان ان لا يقوم للصلاة ويخلد للراحة، وهنا يدخل الانسان في جهاد النفس بين ان يتبع الشيطان او يتبع دينه فاذا لم يكن صاحب ارادة قوية ويصبر على تعبه وعلى نعاسه ويثبت امام ما يوسوس به الشيطان لن يقوم للصلاة وكذلك الصوم ان لم يصبر الانسان على الجوع وتكون لديه ارادة قوية تجعله يقاوم الجوع والعطش ويثبت امام وساوس الشيطان لن يؤدي هذه الطاعة وهذه الفريضة وهكذا في بقية الطاعات .
الصبر على المعصية اصعب من الصبر على الطاعة لان الانسان يدخل في معركة مباشرة مع الشهوات والغرائز خصوصا اذا كانت ابواب المعاصي مفتوحة للانسان ومتاحة له، وهنا الصبر يعبر عن قوة الارادة التي تجعله يقاوم المعصية ولا يسقط فيها ونستطيع ان نقول بان صبر الانسان عن المعصية هو المكابح التي لديه مثل مكابح السيارة المسرعة التي يخشى صاحبها ان تسقط في الهاوية فيضغط على المكابح ويوقفها بقوة حتى لا تسقطالانسان من خلال الصبر يضغط على نفسه بقوة الارادة ان لا يسقط في المعصية ، فعندما يجد الانسان نفسه امام شهوة ما او معصية ما وتدفعه نفسه باتجاه تلك المعصية فيصبر عنها فهذا الصبر يعبر عن قوة ارادة الانسان الذي استطاع ان يضغط على نفسه ويحول بينها وبين المعصية هنا الصبر ليس عاملا سلبيا بل هو عامل ايجابي عامل القوة والارادة الذاتية التي يستطيع الانسان من خلالها السيطرة على نفسه وشهواته وغرائزه.
ثالثا الصبر على البلاء، الصبر على البلاء وهذا البلاء قد يكون على مستوى الفرد وقد يكون على مستوى المجتمع او الامة.
قد يبتلي الانسان بالفقر بالجوع بمشكلات مالية او اسرية في سياق الاختبار (ليميز الخبيث من الطيب)، ليرى مدى صبر الانسان هل يضعف ويسرق او يتاجر بالحرام او يتعامل مع العدو ام يصبر ويصمد امام هذا التحدي ويكون لديه ارادة قوية تمنعه من السقوط.
قد يمتحن الله الإنسان بالشلل بالحول او بالعمى او بالعقم او بفقد حبيب او عزيز يخسر ماله يخسر راتبه يخسر وظيفته ماذا يفعل؟ يصبر ام يكفر
هنا الصبر يمنح الانسان قوة تجعله يثبت ولا ينهار امام المصاعب والبلاء.
بعض الناس ينظر الى الأعلى مثلًا ويقول يا ربي لماذا قتلت ابي؟ فيعترض ولا يصبر، بينما البعض يقول (انا لله وانا اليه راجعون) الله اخذ وديعته وردها اليه، الله اخذ مالنا ونحن وأموالنا لله ، وهكذا هذا ابتلاء على مستوى الفرد.
هناك إبتلاء على مستوى المجتمع او الامة يبتلينا بدولة فاسدة ظالمة بحكام فاسدين او ضعاف وجبناء، اوبقوى مستكبرة مثل اميركا وفرنسا وبريطانيا او بعدو مجرم ومتوحش كاسرائيل يقوم بعدوان متوحش على غزة على لبنان يقتل ويرتكب الجرائم والمجازر ويدمر الخ ماذا نفعل؟
مرة يخاف الانسان ويجزع وينهار وقد يستسلم وينسحب من الميدان ويتخلى عن مسؤولياته لانه هناك متاعب ومصاعب ومشكلات وخوف وجبن وانهزام ولا يملك ارادة الصبر والثبات كما هو حال العديد من الانظمة العربية والاسلامية المطبعة مع العدو او المتخاذلة والضعيفة والخانعة والمهزومة ، ومرة نصبر وتكون ارادتنا قوية على المواجهة، نقاوم ونقاتل ونصمد في الميدان ونثبت ونتغلب على المتاعب والصعاب والمآسي ونواجه هذا الامتحان بقوة ارادتنا، كما كل مجاهدينا وشهدائنا واهلنا الافياء خلال كل المراحل وفي ٢٠٠٦، وكما يفعل اهل غزة اليوم الذين ضربوا اعظم صور الصمود والثبات والصبر في المواجهة الدائرة مع الصهاينة، حصار وجوع وقتل ومجزرة تلو المجزرة ووحشية صهيونية لا حدود لها، هل انهاروا؟ هل تخلو عن ارضهم عن مقاومتهم؟ هل استسلموا؟ هذا يحتاج الى صبر كبير استراتيجي يحتاج الى قلوب عامرة بالايمان والثقة بالله.
اليوم الرهان ليس على القمة العربية الاستثنائية وانما على صبر وصمود وثبات اهل غزة وعلى المقاومة الباسلة التي تؤكد في كل يوم بالرغم من ضراوة المواجهة انها قوية ومقتدرة ومتماسكة وهي تخوض المعركة مع العدو بكل عزم وشجاعة وتتصدى بقوة لاختراقاته البرية وتستنزفه وتلحق بجنوده ودباباته خسائر لا يتصورها .
التوغل البري الى داخل مدينة غزة وإطالة امد المواجهة لن يحققا للعدو الصهيوني أهدافه ولن يوصلاه الى نتيجة. اذا كان العدو يراهن على ان مواصلة المجازر والتدمير من جهة، وعمليات القضم والتوغل الى داخل مدينة غزة من جهة اخرى يمكناه من سحق المقاومة او هزيمة واستسلام اهل غزة فهو واهم جدا .
الشعب الذي يخرج من تحت الركام والدمار ويعبر عن ثباته وتمسكه بالمقاومة هذا الشعب لا يهزم ولا يستسلم ولا يخرج من ارضه. والمقاومة التي يقتحم مجاهدوها دبابات العدو ويضعون العبوات عليها والجنود مختبئون فيها ولا يجرؤون على مواجهة مجاهدي المقاومة وجها لوجه، هذه المقاومة لا تُسحق ولا يمكن لاي قوة ان تقضي عليها، والقضاء عليها هو ضرب من الخيال والوهم.
المعركة اليوم في لبنان وفلسطين هي معركة الصبر والصمود والثبات والتحمل ومنع العدو من تحقيق أهدافه، و نحن على يقين بأن ثبات المقاومة في لبنان وغزة والصمود الاسطوري لاهلنا في غزة وفي لبنان سيؤسسان لنصر حتمي، فإن مع الصبر نصرا بإذن الله.