نص الخطبة
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ .
ويقول سبحانه: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
قبل ايام مرت مناسبة عيد العمال وهي مناسبة للحديث عن اهمية العمل وقيمته ودوره في تحريك عجلة الحياة، وللحديث عن اهمية وقيمة الدور الذي يقوم به العمال الكادحين من اجل تأمين حياة كريمة لهم ولعوائلهم، فتحية للعمال اللبنانيين الذين رغم الظروف الصعبة وتدني الاجور يواصلون العمل ويكدحون من اجل مواجهة سياسة التجويع والحصار والضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يفرضها الامريكي على لبنان .
العمل والكد وبذل الجهد والحيوية والنشاط والسعي لتحصيل الرزق كلها عناوين اكد عليها الاسلام وجعل لها قيمة خاصة وفرض لمن يقوم بها إحتراما خاصا، في مقابل عناوين الخمول والكسل والقعود والاسترخاء والاتكال على الاخرين والتسول وسؤال الناس التي رفضها الاسلام واعتبرها تتنافى مع أخلاق المؤمن ومكانته ودوره في اعمار الحياة وتطويرها.
فالله سبحانه وتعالى لم يزود الإنسان بالعقل والارادة والهمة وبكل هذه القدرات المادية والمعنوية التي اودعها فيه، ليجلس في بيته ويصاب بالكسل والخنوع وقلة الهمة وليعيش في الفراغ والضياع اوليتلهى بما لا ينفعه وينتظر من يساعده ويتصدق عليه ليعيش ويستمر في الحياة، وانما خلق الله الانسان بكل هذه الطاقات والقدرات ليكدح ويعمل وينتج ويسعى ويأبىَ الجلوس والخنوع والبطالة، وإلا كان وجود كل تلك الطاقات عبثاً ولغواً، وكلَّما زاد سعي الإنسان ونشاطه وفاعليته، واشتدَّت حركته، ظهرت كفاءاته وامكاناته، وانصقلت شخصيتَّه؛ ولذلك يجب أن يكون الانسان مهما كانت الظروف في حالة سعي وكدح دائم، يفكر ويبذل الجهد، ويكثف من عمله ونشاطه، ويتحمّل مسؤوليته اتجاه عياله وابناء مجتمعه ووطنه فيقوم بدور اعمار الحياة وتطوير الحياة.
ولا ينبغي ان يستعيب الانسان من اي عمل شريف يعرض عليه، فالعمل مهما كان وضيعا او قليل الاجر يبقى افضل واشرف من التسول ومد اليد للناس.
ويكفي العامل شرفا ان سيد الخلق محمد بن عبد الله(ص) كرمه بان قبل يده الخشنة التي أخذ منها العمل مأخذاً، هذه الكرامة وهذه القيمة والمكانة لا تقاس ولا تصل الى مستواها أيُّ قيمة أخرى.
فقد روي ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا رجع من تبوك استقبله أحد الصحابة، فقال له الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “ما هذا الذي أرى بيدك”؟ قال: من أثر المرّ والمسحاة، (المَرّ يعني الرَّفش والمِسْحَاة يعني المجرفة) أضرب وأنفق على عيالي، فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده وقبلها وقال: ” هَذِهِ يَدٌ لا تَمَسُّهَا النَّارُ أَبَدًا . “.
فالنبي الأكرم الذي هو أعظم مخلوق في هذا الوجود، يتواضع للعامل بهذا الشكل، وينحني على يده ويقبّلها.
وقيل ان النبي(ص) قبّل باطن اليد لا ظهر اليد، وهذه ملاحظة مهمة، لأن آثار العمل تظهر في باطن اليد، فالنبي(ص) يريد من خلال ذلك أن يبين قيمة العمل، فهو يقبّل ذلك المكان الخشن من اليد لكي تدرك الشعوب الإسلامية والبشرية قيمة العمل والكد والتعب في سبيل تحصيل الرزق الحلال وتطوير الحياة.
ولذلك ايضا نجد ان النبي(ص) كان يعمل ولم يكن ليعيبه أيُّ عمل شريف يؤمن به معاشه ويستغني به عن الناس، كان يرعى الغنم لاهله في مرحلة الصبا ومطلع الشباب، حيث كانت المواشي عندهم من الوسائل العادية الموجودة في كل بيت من أجل العيش وكسب الرزق.
كما أنه عمل في التجارة الخارجية مع السيدة خديجة (ع) عندما أصبح شابا في عمر الخامسة والعشرين.
وليس هناك أي عيب أو نقص في أن يقوم النبي(ص) بالعمل والكدح في سبيل تأمين العيش الكريم، لان العمل في سبيل تأمين العيش وتطوير الحياة يحبه الله ، وهو من سنن الأنبياء والمرسلين جميعا، فقد عاش كثيرون من الأنبياء من عمل أيديهم وعرق جبينهم، وأتقنوا بعض المهن والاعمال الشاقة والشريفة حتى لا يكونوا عبئاً على أحد من الناس.
الامام علي (عليه السلام) كان عاملاً ايضا، فعن الإمام الباقر عليه السلام: “كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يخرج في الهاجرة في الحاجة قد كفاها، يريد أن يراه الله يُتعب نفسه في طلب الحلال”.
ويتحدَّث الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن جده قائلاً: “كان أمير المؤمنين عليه السلام يضرب بالمرّ – أي المعول والمجرفة – ويستخرج الأرضين”.
وكان عليٌّ (عليه السلام) يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: “نخلٌ إن شاءالله، فيغرسه فما يغادر منه واحدة”.
لذا لم يكن الإمام عليٌّ (عليه السلام) يأكل شيئاً من بيت المال بل كان كان يأكل من عرق جبينه وكان طعامه نتاج زرعه وعمله.
وفي الروايات انه في نفس اليوم الذي بايعوه فيه بالخلافة والإمامة حمل المسحاة بيده وذهب للعمل!.
بقية ائمة اهل البيت(ع) كانوا يعملون، يقول محمد بن المنكدر: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة فلقيني أبو جعفر الباقر عليه السلام وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ أما إني لأعظنه، فدنوت منه فسلمت عليه فردّ عليّ، وهو يتصابّ عرقاً. فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال: “لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزَّ وجلَّ، أكفُّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله عزَّ وجلَّ”، فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.
هذا درس بليغ من الإمام الباقر (عليه السلام) في أهمية العمل لكلِّ إنسان، مهما كان موقعه وشرفه، ومهما كانت الظروف المحيطة به.
كل هذا الجو وهذا السلوك يعني ان الإسلام يريد من الانسان ان يعمل ويكد ويتعب ولا يحب للانسان ان يتكاسل ويتحول الى عبء على الناس والمجتمع، فقد ندّد الاسلام بالكسالى والتنابل الذين يحقرون الأعمال الصغيرة الشريفة ويرفضونها ليتحولوا إلى عبء على المجتمع بسبب بطالتهم.
فعن النبي(ص): والله لأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ علَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهُ، ويَسْتَغْنِيَ به مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أعْطاهُ، أوْ مَنَعَهُ ذلكَ، فإنَّ اليَدَ العُلْيا أفْضَلُ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى.
وعن الإمامُ الباقرُ عليه السلام: إيّاكَ والكَسَلَ والضَّجَرَ؛ فإنّهُما مِفتاحُ كُلِّ شَرٍّ
بعض الناس يتصور أن العمل يتعبه وهو يريد أن يرتاح، ويتصور أن الأفضل لجسمه ألا يعمل ولا يشتغل، بينما العلم يثبت العكس، والطب يقول عكس ذلك، والروايات عندنا تؤكد العكس.
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) يقول: من يعمل يزدد قوة ومن قصر في العمل يزدد فترة.
وللعمل تأثير على الحالة النفسية، فمن يعمل يرتاح نفسياً ويكون أكثر انفتاحاً، بينما الإنسان المتقاعس عن العمل بسبب الفراغ يعيش القلق والهموم والغموم؛ ولذلك يقول أمير المؤمنين(ع): من قصر في العمل ابتلي بالهم .
العمل يعطي القوة والنشاط للكبير والصغير، كانت حياتنا السابقة تربي الولد على العمل والمشاركة والعطاء ، فقد كان الولد يذهب مع أبيه الى الحقل او الى شغله او دكانه أو مزرعته، كان الصبي والبنت والمرأة تشارك بالعمل والانتاج . لكن مع تطور الحياة أصبح الأب يفتخر بأنه يريح أولاده، ولم يعلم أن هذا يضرهم، لأن الولد إن لم يمارس الحياة فلن تصبح عنده تجربة وخبرة ولا يعتمد على نفسه ، وان لم يعتمد على نفسه تصبح لديه اتكالية.
بعض الشباب القادر على العمل والانتاج مع الأسف يتكاسل نتيجة السهر على الاركيلة والتلهي بالهاتف واللهو والاشياء التي لا طائل منها، فيبقى نائماً في البيت الى منتصف النهار بينما أبوه يتعب ويكد ويعمل لتأمين لوازم الأسرة.
ومع وجود البحبوحة المالية ووجود خدم في البيت أصبحنا نعتمد على الآخرين في أبسط الأمور، فيستلقي البعض لمشاهدة التلفزيون وينادي الخادمة لتأتي له حتى بكوب الماء مثلاً. فيتربى على الكسل والتنبلة وقلة الهمة او على الترف والميل إلى الراحة والدعة، فلا يستطيع أن يواجه أي مشكلة من مشاكل الحياة او العمل التي تواجهه، بل ينهزم وينهار أمامها، لم يعد البعض يرضى يالاعمال الشاقة والصعبة مع انه يكلك بنية جسدية قوية ويستطيع ان يعمل وينتج في مثل هذه المجالات اصبح الشخص يريد عملاً مريحاً في مكتب تحت ظل مكيف ، وإذا لم يجد عملاً بهذه المواصفات يتأفف ويعترض على الحالة التي وصلنا اليها ويقول: لا يوجد عمل مع ان العمل متوفر لكنه ليس على مزاجهه فهو ليس مستعدا لبذل الجهد والتعب والسهر بينما ظروف الحياة اصبحت تتطلب من الإنسان أن يكدح ويتعب ويواجه الصعاب والمشاق .
صحيح ان هناك مشكلة في فرص العمل حيث لم يعد من السهل تحصيل الأعمال بسبب الاوضاع والظروف المختلفة التي يمر بها البلد، لكن هذا لايعني انه لا توجد اعمال بالمطلق ، هناك اعمال كثيرة لكن على الإنسان أن يتلك اولا ثقافة العمل ان يحب العمل انن تكون لديه رغبة للعمل والكد وبذل الجهد، هذا مطلوب اولا، لان المشكلة ان البعض لا يرغب في ان يعمل ويريد ان يعيش مرتاحا ويتكل على الاخرين ، وثانيا على الانسان ان يفتش عن عمل ، ان لم يكن بلا عمل، وان يرضى باي عمل شريف حتى لو كان متدني الاجر، فالعمل باجر قليل افضل من التسول.
والبنت سابقاً كانت منذ صغرها تقوم مقام أمها في رعاية البيت وتتربي على ادارة البيت والاسرة، اما الآن فان البنت تكبر ولا تعرف شيئا، ويمكن أن تتزوج وهي لا تستطيع في بعض الحالات أن تدير أمور بيتها، فلا تعرف كيف تطبخ وكيف تدير بيتها واسرتها لأنها في بيتها مع أمها لم تتعود على هذه الحالة ولم تتربى على ذلك كانت اتكالية.
سياسة ترفيه الأولاد إلى حد زائد تضر بالأولاد.
كان العرب في الجاهلية يبعثون أولادهم لكي يتدربوا في الصحراء حتى يعيشوا الخشونة هناك والقسوة فتتربى أجسامهم وشخصياتهم.
النبي تربى في البادية عند حليمة السعدية لان التربية في البادية غير التربية في المدينة ففي البادية الصفاء وفي البادية يتربى الانسان على شظف العيش والقسوة والخشونة ومواجهة صعوبات الحياة فيصبح ذا شخصية قوية.
لذلك يجب أن نشجع أولادنا وبناتنا على العمل والإنتاج، لأن الإنسان إذا لم يعمل ولا يخوض تجربة العمل مبكرا ويعطل طاقاته وقدراته يصبح اتكاليا وفاشلا الغرب وصل الى هذه المرحلة من التطور المادي على مختلف الصعد لان الانسان اسنطاع ان يستفيد من كامل قدراته وطقاته بينما الانسان في مجتمعاتنا لم يستفد سوى من جزء بسيط امكاناته وقدراته التي اودعها الله فيه
العمل شيء مقدس والعامل المنتج هو انسان محترم بل هو كامجاهد في سبيل الله فقد أكَّدت الروايات الشريفة على أنَّ أجر العامل كأجر المجاهد في سبيل الله، فعن الامام الصادق عليه السلام قال: “الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله”.
وعن الامام الرضا عليه السلام قال: “الذي يطلب من فضل الله عزَّ وجلَّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله عزَّ وجل”.
فما الرابط بين العامل والمجاهد؟
الرابط هو ان المجاهد في الجبهات يعمل ويكدح ويقاوم من أجل الدفاع عن بلده وارضه وشعبه والعامل ايضا ايا كان مجال عمله هو يعمل ويكدح ويقاوم من أجل تطوير بلده واستقلاله وقطع تبعيتها للخارج.
يقول الامام الخميني قدس سره: “فكما أن القوى المسلحة تحمي حدودنا وتدافع عن الإسلام بشجاعة وشهامة، وتقدم شباباً أعزاء من أجل ذلك، ورغم ذلك فهي مشغولة بالدفاع بمنتهى الشجاعة عن البلد والإسلام، وكذلك فإن العمال المجاهدين والفلاحين المجاهدين يمارسون جهادهم داخل البلاد نظير ذلك الجهاد، إذ أن أولئك يحمون الحدود من الأخطار وأنتم تحمون داخل البلاد من التبعية”.
ولذلك اليوم العمل وتحسين الانتاج وتحسين المعيشة هو جزء من معركة مواجهة الحصار الامريكي للبنان
الامريكي بحصاره يريد تجويع الناس من خلال منع الاستثمار والتحويلات المالية الى لبنان وعدم المساعدة على الانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج وربط الاقتصاد بالخارج وغير ذلك من السياسات التي لم تنتج سوى المزيد من البطالة وانعدام فرص العمل وهجرة الشباب اللبناني الى الخارج.
الاعتماد على الذات والتوجه نحو الانتاج الوطني والعمل في الصناعة والزراعة وعدم الاعتماد على المساعدات الخارجية تمكن اللبنانيين من كسر الحصار وتجعله بلا جدوى.
اليوم لا يزال انجاز الاستحقاق الرئاسي متعسرا بسبب تمترس القوى السياسية وراء مواقفها وعدم حصول اي خرق جدي في الأفق يفتح ابواب الحل رغم المحاولات والمساعي التي يقوم بها البعض للوصول الى قواسم مشتركة لان الحراك السياسي الداخلي لا يؤدي الى النتيجة المطلوبة ما لم يكن هناك ارادة جدية لدى الجميع للتفاهم والتوافق والخروج من المأزق.
وبالتالي فان المخارج الداخلية والخارجية لانتخاب رئيس للجمهورية مقفلة وكل طرف متمسك بمواقفه ولا يبدو ان احدا مستعد لتقديم تنازلات تخرج البلد من المأزق واذا بقينا على هذه الحال فان الأزمة ستطول والفراغ سيبقى سيد الموقف.والمخرج الوحيد هو العودة إلى الحوار والتوصل الى تسوية داخلية وعدم انتظار الخارج.
لقد دعونا للتلاقي والحوار ولا زلنا ندعو لذلك لاننا مقتنعون بان لا سبيل للحل الا بالحوار والتلاقي بين اللبنانيين وخلاف ذلك هو مضيعة للوقت.
التصلب والتصعيد في المواقف لا ينفع ولا يخدم الحل ومن يعتقد انه بامكانه ان يفرض خياراته عن طريق ذلك فهو مخطىء فكل التجارب السابقة تدل على ان هذا المنطق لا يوصل الى نتيجة وان الحل لا يكون إلا بالتوافق بين اللبنانيين.