نص الخطبة
من دعاءِ الإمامِ زينِ العابدينَ عليه السلام في وداعِ شهرِ رمضانَ: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ اجْبُرْ مُصِيبَتَنَا بِشَهْرِنَا، وَ بَارِكْ لَنَا فِي يَوْمِ عِيدِنَا وَ فِطْرِنَا، وَ اجْعَلْهُ مِنْ خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْنَا أَجْلَبِهِ لِعَفْوٍ، وَ أَمْحَاهُ لِذَنْبٍ، وَ اغْفِرْ لَنَا مَا خَفِيَ مِنْ ذُنُوبِنَا وَ مَا عَلَنَ”.
ماهي إلا ساعات ، ونودع شهر رمضان المبارك ، فهذا اليوم الجمعة ، هو آخر يوم من شهر رمضان المبارك.
المؤمنون يتألمون لفراق شهر رمضان حتى ولو أدوا فيه ما عليهم من واجبات ومستحبات وطاعات..
فالامام في الدعاء الذي قرأناه يعتبر فقد شهرِ رمضانَ مصيبة يعني شيئا محزنا ومؤلمًا لانه بانقضائه يفقد الانسان شهرا عظيما وزمنا جليلا جعلَهُ الله باباً لمغفرةِ الذنوبِ ومضاعفةِ الثوابِ وقبول الأعمالِ. ولذا يتوجّهُ الامام إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالدعاءِ ليجبرَ هذا الفقدانِ.
واكثر من يجب ان يتحسر هو من فاتته فرصة استثمار هذا الشهر غتعامل معه كما يتعامل مع سائر الشهور ولم يستغل أيامه ولياليه بالعبادات والطاعات والاعمال الحسنة من قصر في هذا الشهر الشريف لا بد أن يختم هذا الشهر بالندم والحسرة على التقصير والتفريط وإلخلال الذي اصابه ، لا بد أن يحزن ونتألم على كل لحظة فاتت عليه في شهر رمضان من دون استغلالها في العبادة والطاعة والعمل الصالح .
وفي المقابلبعض الناس قد يكونوا اجتهدوا بالعبادة والطاعة في شهر رمضان فصاموا وختموا القرآن وبعضهم ختمه أكثر من مرة, وأدوا الفرائض والمستحبات وقاموا الليل كله ، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات, وقدموا ما قدموا, وجلسوا في المساجد وتوجهوا الى الله فيها, لكن تلك العبادات لم تؤثر فيهم في روحيتهم وسلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم.. وإذا لم تؤثر هذه العبادات في حياتنا نحو الأفضل, اذا لم تؤثر في سلوكنا وأخلاقنا ومعاملاتنا, اذا بقيت النفس آمارة بالسوء ومنساقة مع أهوائها وشهواتها .. ان لم تربي في انفسنا ملكة التقوى فإننا لن نحصل على غاية الصوم والهدف من الصوم بل قد لا لكل هذه العبادات قيمة عند الله , وكذلك إذا أصاب الإنسان العجب بأعماله الكثيرة.. فالشيطان قد يوسوس ويقول لقد فعلت أشياء كثيرة وطاعات عظيمة, خرجت من رمضان بحسنات كثيرة, ورصيدك في غاية الارتفاع, صحائف أعمالك مملوءة, فلا عليك بعد ذلك أن تعمل وتجهد نفسك في العبادة! وهكذا يصاب الإنسان بالغرور والعجب وتمتلئ نفسه فخراً ولكن الله سبحانه يقول:(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (المدثر:6) أتمن على الله؟ أتظن أنك فعلت وقدمت له أشياء عظيمة وخدمات جليلة؟ (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) لا تمن على الله بعملك, لا تفخر لا تغتر, ولا تصاب بالعجب وتتخيل أن أعمالك كثيرة, ففي الحديث عن النبي(ص): لو أنَّ رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يومِ وُلِدَ إلى يومِ يموتُ هَرَمًا في مرضاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَحَقَّرَه يومَ القيامةِ “أي لوجده يوم القيامة قليلا ضعيفا حقيرا لا يساوي شيئاً, فإنه لو قارنه بنعمة واحدة من النعم كنعمة البصر أو نعمة السمع أو نعمة التنفس لصار هذا قليلا لا يساوي شيئاً, فالإنسان مهما كان حجم عمله كبيراً وعظيماً لا يستطيع أن يفي حق نعمة واحدة من نعم الله عليه, فكيف إذا كانت نعم الله كثيرة لا تعد ولا تحصى؟ نعم الإنسان لا يستطيع أن يوازي بأعماله العظيمة ولو شيئاً بسيطاً من كرم الله وجوده ونعمه وألطافه , و لذلك فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بعمله مهما كان عظيماً, وعليه أن لا يكتفي بما قام به في شهر رمضان من عبادات وطاعات ثم يتراخى بعد شهر رمضان وتفتر همته.
على الإنسان المؤمن بعد شهر رمضان أن يواصل العمل والعبادة والطاعة وأن لا تفتر همته عن ذلك, أن لا يحول الطاعة الى موسم , ان لا يكون شهر رمضان موسماً للعبادة والطاعة وعمل الخير حتى اذا انقضى الشهر المبارك عاد الإنسان الى سابق عهده من التفلت من المسؤوليات العبادية والإيمانية والإجتماعية وأعمال البر والخير.
فعن علي(ع) إنّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عباد الله، فقد غفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون فيما تستأنفون.
لقد غفر الله لنا كل ما سلف من ذنوبنا في شهر رمضان بمنه ولطفه ورحمته وبعفوه , وليس عن استحقاق أي لأننا نستحق ذلك, فأعمالنا وحدها لا تدخلنا الجنة من دون رحمة الله وعفوه, نحن ندخل الجنة من بوابة رحمة الله الواسعة وعفوه العظيم.. ولكن ماذا عن المستقبل؟ ماذا عما بعد شهر رمضان؟ هنا لا بد من أن يستأنف الإنسان أيامه في العمل الصالح والطاعة, ان يستمر في عباداته وطاعاته لا أن تفتر همته.
من علامات الخذلان وسوء التوفيق أن تفتر النفس بعد شهر رمضان, تفتر النفس عن الطاعة, وتنصرف عن العبادة, وتعود إلى ما كانت تقترفه من أنواع المعاصي، الذين دخلوا رمضان بالمعاصي وخرجوا من رمضان بالمعاصي لم يستفيدوا شيئاً كما قال الله تعالى عن الكفار والمنافقين) :وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) (المائدة:61
فالمنافقون دخلوا الى النبي بالكفر ثم خرجوا من عنده والكفر لا يزال فيهم لأنهم لم ينتفعوا بما سمعوا من كلماته ومواعظه, لم يفد فيهم العلم ولم تؤثر فيهم المواعظ .
فالذين دخلوا رمضان وخرجوا مثل ما كانوا قبل رمضان أو أسوأ تنطبق عليهم هذه الآية دخلوا رمضان بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي بعد رمضان, رجعوا إلى ما كانوا فيه من المنكرات والمعاصي والذنوب, لم يستفيدوا من رمضان, لم يورثهم شهر رمضان توبة ولا استغفاراً ولا إقلاعاً عن المعاصي ولا ندماً على ما فات.
لقد كان شهر رمضان بالنسبة لهم محطة مؤقتة, وموسم كبقية المواسم التي يقوم فيها الإنسان بأعمال خاصة ثم سرعان ما يرجع إلى ما كان فيه.
بعض الناس لا يصلي إلا في شهر رمضان ولا يصوم إلا فيه ولا يقرأ القران إلا فيه ولا يعبد الله إلا فيه ولا يكون متديناً ومقبلاً على الدين إلا في رمضان, وبالتالي هو يمارس العبادة بشكل موسمي, فاذا انقضى شهر رمضان يعود الى وضعيته السابقة, هل يكون هذا الإنسان قد عبد الله حق عبادته؟هل أدى حق الله؟ هل يكون قد أطاع الله أصلاً ؟
هذه مصيبة وكارثة أن يعود شارب الخمر بعد شهر رمضان إلى شرب الخمر,ومتعاطي المخدرات إلى التعاطي من جديد, وأصحاب الزنا إلى الزنا والعياذ بالله, وأصحاب الربا إلى الربا, وأصحاب الفسق ومجالس اللغو إلى اللغو, وأن يعود تارك الصلاة الى ترك الصلاة.. وهكذا هؤلاء دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي فما استفادوا شيئا من شهر رمضان وروحانيته.
بعض الناس يتصور أن ما حصل في رمضان كافٍ للتكفير عن سيئات الأشهر القادمة’ ولذلك فهو يعول على ما قام به في شهر رمضان , فما قام به كفيل بأن يكفر عنه ؟! وهذا اشتباه كبير.
الصائمون الحقيقيون هم من جعل من الصوم في شهر رمضان مقدمة لصومهم الكبير في كل أيام السنة, فعلوا الواجبات في شهر رمضان ليتدربوا على فعل الواجبات في كل ايام اسنة, وتركوا المحرمات هنا ليتركوا المحرمات في كل السنة .
لذلك المطلوب استمرار العمل والطاعة, ولا نقول أنه يجب أن نكون بعد شهر رمضان كما كنا في شهر رمضان وبنفس الزخم الذي كنا فيه , فنحن نعلم أن شهر رمضان شهر عظيم لا يوازيه شهر من الشهور, فليس المطلوب نفس الاجتهاد والجد لكن لا ينبغي الانقطاع عن الأعمال والطاعات ؛ يجب أن يستمر العمل بمرضات الله وبما افترضه الله, ويجب ان يراقب الإنسان أعماله وتصرفاته وسلوكه وأخلاقه ومواقفه وعلاقاته لتكون كلها في طاعة الله سبحانه, وأن يتحمل الإنسان مسؤولياته على كل الصعد, وأن يتحلى بالوعي وبالصبر والثبات والإرادة الصلبة والحكمة في مواجهة التحديات والضغوط والأحداث التي يمر بها في حياته.
اليوم تقدم محور المقاومة وتراجع المحور الامريكي في المنطقة لم يحصل بالمجان وانما هو بفعل الصمود والثبات والصبر والتضحيات الجسيمة التي قدمتها شعوب ودول هذا المحور والمعادلات التي ارستها المقاومة في المنطقة.
الاحداث الاخيرة المتعلقة بفلسطين ومعادلات المقاومة لجمت العدو الصهيوني عن التمادي في العدوان والتوسع في الرد على صواريخ لبنان والجولان وغزة واظهرت هشاشة الكيان الصهيوني وضعفه في مواجهة المقاومة بينما اظهرت محور المقاومة قويا ومتماسكا وفي حالة من التنسيق والتكامل بين اطرافه الامر الذي جعل المسؤولين الصهاينة يتوقفون بقلق امام هذا التطور ويعتبرون ان كيانهم بات في مواجهة وحدة الساحات ليس على المستوى الفلسطيني فقط بل على المستوى الاقليمي ايضا، وهذا من شانه ان يشكل تهديدا استراتيجيا غير مسبوق للكيان الصهيوني”.
اكثر ما يقلق العدو الاسرائيلي اليوم ان محور المقاومة استطاع ان يحاصر كيانه بالمسيرات والجبهات التي تؤمن بوحدة الساحات، وإن المتغيرات الاقليمية لاسيما التقارب السعودي الايراني وعودة العرب الى سوريا زلزلت عملية التطبيع في المنطقة وحطمت الحلم الذي طالما راود نتنياهو بتحالف إقليمي بقيادة إسرائيل مع بعض الدول العربية ضد محور المقاومة.
الكيان الصهيوني بدأ ينحدر في مسار تنازلي، وتحاصره المقاومة، وتكبله معادلاتها ووحدة ساحاتها، بينما محور المقاومة يزداد قوة وحضورا وقدرة على فرض المعادلات التي تحمي الاوطان وتبعث الامل في استعادة المقدسات وصنع الانتصارات في فلسطين والمنطقة.
ومع الاسف فان اللبنانيين لم يستفيدوا حتى الان من المتغيرات التي تحصل في المنطقة ومن التقارب بين دولها ففي الوقت الذي نشهد اندفاع العرب باتجاه سوريا لترتيب العلاقات معها نجد ان لبنان لا يزال متخلفا عن اللحاق بالركب العربي استرضاءا لاميركا مع انه احوج ما يكون للانفتاح على سوريا وتفعيل العلاقات معها لما لذلك من انعكاسات ايجابية مباشرة على البلد اجتماعيا واقتصاديًا ومعيشيا يمكنها ان تساهم في معالجة الازمات التي يعاني منها.
اليوم الجميع يحذر من اطالة امد الفراغ واعطاء الاولوية لانجاز الاستحقاق الرئاسي لكن لا احد من الفريق الاخر يبدي مرونة للتوافق على رئيس للجمهورية .
الكتل النيابية الرافضة للحوار متمسكة بقناعاتها وخياراتها المتباينة ولا تظهر اي استعداد للتعاون لإنجاز هذا الاستحقاق بالرغم من عجزها عن الاتفاق فيما بينها على مرشح جدي، وفشلها في فرض مرشح المناورة والتحدي خلال كل الجلسات السابقة، وهذا هو ما يعقد ويعطل حتى الآن انتخاب الرئيس.
يجب ان تعرف القوى السياسية المتصلبة بارائها وخياراتها أنها لا تستطيع انجاز الاستحقاق الرئاسي ما لم تتعاون وتتنازل وتبدي المرونة المطلوبة للتوافق مع بقية الاطراف على مرشح ينفتح على الجميع ويكون قادرا على توحيد اللبنانين وانقاذ البلد وحمايته من الاخطار .
المصدر: بريد الموقع