دعا المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان اللبنانيين جميعا إلى “الجلوس معا لنصنع لبناننا الجديد، فكفانا انقسامات ورهانات على عواصم العالم، ولتكن بيروت أقرب لنا جميعا من بقية عواصم العالم، فبيروت في قلوبنا، وما أصابها أصاب كل اللبنانيين، وهي أقرب من واشنطن وأقرب من باريس وأقرب من الدوحة وأقرب من الطائف وأقرب من طهران، مع احترامنا للجميع”.
كما دعا إلى “الذهاب فورا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بأولويات وطنية، بعيدا من إشارات أو بيانات القناصل والسفارات، وإلا ضاع وطننا”.
كذلك دعا إلى “نظام تكميلي للطائف أو تعديلي لهذا الطائف، الذي قد لا يبقي حجرا على حجر في هذا البلد”، معتبرا أن “ما شهدناه في انفجار المرفأ خير شاهد على فشل هذا النظام الذي يجهل المسؤول والفاعل معا”.
كلام قبلان جاء في رسالة شهر محرم الحرام ورأس السنة الهجرية لهذا العام، والتي ألقاها من مكتبه في دار الإفتاء الجعفري، وهذا نصها:
“مقارنة بالتاريخ الأكثر تأثيرا من خلال هجرة النبي الأعظم (ص) وثورة الإمام الحسين عليه السلام، التي جددت وأكدت مشروع النبي (ص) ومبادئ رسالته، التي قامت على قيم ومفاهيم فكرية واجتماعية وفردية ومجتمعية وسياسية، وشكلت مفصلا للتاريخ الإنساني، فقد تلاقت هجرة النبي (ص) ودعوته مع قيام ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، لأن رسالة السماء ومشروعها لا يمكن أن ينفصل عن ضرورة السلطة العادلة ومفهومها الحقوقي كضامن وكافل رئيسي للإنسان.
بخلفية أن جوهر رسالة السماء ومشروع ثورة سبط النبي (ص) تشكلت حول قضية الإنسان وحقوقه ودوره الوظيفي والأخلاقي والمدني. وعليه، فإن الصلاة والصيام وباقي العبادات الفردية هي ضرورة ماسة، إلا أن هذه الضرورة لا بد أن تتحول قيمة اجتماعية أخلاقية وخيارا سياسيا مدنيا لصالح بني الإنسان وقيمه في مجالات الاجتماع السياسي والكفالات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمالية، ومفاهيم الحريات والحقوق وإدارة مشروع الدولة، كبرامج وسياسات يراد منها تأكيد قيم الله بالإنسان والوطن.
ومن هنا، أكد الله سبحانه وتعالى ونبيه الأكرم (ص) والحسين السبط الشهيد محورية الإنسان وحاجاته كأساس أول لشرعية السلطة وعدالة الدولة ومفهوم العبادة الفردية والجماعية. وهو نفسه الشعار الذي ردده الإمام الحسين (ع) في شهر محرم الحرام، من خلال ملحمة عاشوراء، الأكثر تأثيرا في عالم القيم والتضحيات. لأن القضية المؤكدة عنده تبدأ بالإنسان وضرورة نصرته، وتأكيد حقه وحريته المنتظمة، وبمنع السلطة الفاسدة، بل هو غاية المشروع الحقوقي.
ذلك هو نهج الإمام الحسين (ع) الذي يفترض بالقيادات والشعوب الانتصار لهويتها الأخلاقية والوجودية، والتضحية بنفسها وبما تملك من أجل سعادة الإنسان وكرامته، وإنقاذ المعذبين والمظلومين من سطوة الفاسدين والمحتكرين، سواء كانوا مشروعا سياسيا أو حكومات فاسدة، أو مشاريع حكم استبدادية، أو برامج مصلحية جشعة تعيش على الابتزاز والأنانية والطائفية والاحتكار السياسي والاضطهاد.
وعليه، لقد كانت هجرة سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) ومفهوم تضحياته العظيمة كهجرة جده النبي محمد (ص)، جغرافية وفكرية واجتماعية وسياسية، تحت شعار الإنسان أولا، ببعده الوجودي والقيمي، فيما قضية الوطن تبدأ بالمشروع السياسي وبالفهم الحاسم والصريح لشرعية السلطة الموقوفة على شرعية مصالح الإنسان. ومعه، فإن الجوع والفقر والأمية والجهل والبؤس والفشل الاجتماعي والتعليمي والصحي والتربوي والمهني والاحتكار السياسي هو فشل ذريع لعقل السلطة، وسقوط لشرعيتها ولمفهومها ولدورها، ولدور الفريق الذي يدير مؤسساتها، وفق مبدأ الأولويات، والتي من المفروض أن توظف من أجل أولويات الناس.
من أجل ذلك، رفع الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء شعارات جده نفسها، يوم هاجر (ص) على قاعدة أساسية وثابتة، تؤكد أن كل ما في هذا الكون هو من الله وإلى الله، وعلى الإنسان أن يقرأ حقائق هذا العالم وسر هذا الوجود، ليجير القيم السلوكية في هذا المعنى. كما جسد الحسين (ع) مبادئ جده الشهيرة كعناوين ضامنة للإنسان وللإطار السياسي والحقوقي، كمبدأ “لا فرق بين أبيض وأسود”، كمبدأ “كلكم لآدم وآدم من تراب”، ومصداقا لقوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، ولقوله {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، وجمع عليها حقيقة حب الوطن، مؤكدا أن حب الأوطان من الإيمان، بخلفية أن تحكموا بالعدل، وصرح باختلاف البشر فكريا ودينيا تحت مبدأ {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} لا لتتقاتلوا، بل لتتحاوروا، كضرورة حتمية للوحدة البشرية، رغم تنوعها الديني والحضاري، مؤكدا على ضرورة تعاونها وتواصلها ومنع النزاعات بينها، لصالح الإلفة الأخلاقية بين البشر، والحوار الهادف للمصالح الإنسانية. وختم بحقيقة أن أكرم ما عند الله هو الإنسان، لذلك إذا ضاع الإنسان ضاعت الدولة، وإذا ضاع المواطن ضاع الوطن.
وعلى هذا الأساس أقام النبي (ص) مشروع دولته، وشرعة سلطته، التي طالب الإمام الحسين (ع) برد السلطة إليها، وهي التي أطرها بأكبر مبادئ عون الإنسان ومحبته وتكريس حقوقه وفق مبدأ {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، على قاعدة الإنسان بما هو إنسان، لأن أكبر المبادئ الحقوقية عند الله أن تبدأ بالإنسان، دون أن تلغي قيمته الدينية والحضارية. إلا أن رأس مفهوم القيم الحقوقية في دولة النبي الأعظم وأكبر مبادئ الإمام الحسين (ع) يبدأ وينتهي بقدسية الإنسان.
لذلك، فإننا وعلى رأس السنة الهجرية، وعلى عتبة محرم الحرام، بكل ما يعنيه محرم من ملحمة قيم وحقوق وضمانات، نؤكد أن مركز شرعية السلطة والوطن هو الإنسان، كما أن شرعية المشروع العام تبدأ وتنتهي بالإنسان، فلا شرقية ولا غربية، بل مصالح وطنية وإنسانية، مصالح يجب الدفاع عنها، وحمايتها وتكريسها، فلا حياد في قضية الإنسان أو الوطن، كما لا حياد في مواجهة الفساد والاضطهاد والمحتل والمعتدي وفوضى المنطقة، التي تتقاتل وتتصارع على طريقة الفوضى الأمريكية في المنطقة.
وهنا نعود ونؤكد أن ظروف 1920 لقيام كيان طائفي وقاعدة مصالح عابرة انتهت، لأن المنطقة والعالم بمكوناته السياسية وأوزانه الدولية والإقليمية تغير للغاية، كما أن الظروف التي أنتجت الميثاق السابق تغيرت أيضا، وهذا ينسحب على الطائف نفسه، فالعالم كله قد تغير، والمنطقة بكل أوزانها وأحلافها وأولوياتها السياسية ودوافعها الخارجية تعيش الفوضى والصراعات الهائلة، التي لا محل فيها للحياد، ولا معنى فيها للهروب، أو لطمر الرأس، ولم يعد هناك معنى لمقولة “لبنان قوته في ضعفه”، كما لا معنى فيها للبكاء على ماضي الامتيازات والتصنيفات، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي لكم أثناء زيارته الأخيرة لبيروت كطريقة لمعالجة أزمة لبنان الرئيسية، وأن العالم قد تغير، وعلى لبنان أن يتغير وأن يعبر إلى نظام سياسي جديد، يضمن بقاء لبنان، في منطقة تتآكلها النيران.
من هنا، نحن نصر على تمسكنا بكيان لبنان، لبنان الشراكة، والسلم الأهلي، والتنوع، لبنان المسلم والمسيحي على قاعدة المواطنة، لا فرق بين الشمال والبقاع والجنوب وجبل لبنان والضاحية وبيروت وكسروان، لبنان كوطن لنا جميعا، لكن يجب أن نعترف بكل عقلانية ورحابة صدر وواقعية أن النظام السياسي الحالي بات عاجزا عن تلبية طموح اللبنانيين وحقوقهم الضرورية، وهو غير صالح للحكم ولا لحكومة. كما أن الطائفية السياسية مزقتنا، وحولت وطننا الحبيب إلى ضحية تفترسها كل ذئاب العالم، لا بل مكنت كل مافيات القرصنة والصفقات والمصالح من نهب مؤسسات الدولة وإفقار الناس ووضع البلد أمام انهيارات مالية ونقدية وسياسية، قد تلغي لبنان الكيان والميثاق والصيغة والهوية والشراكة.
من هنا جاءت مطالبتنا بحماية لبنان، لأننا نريده وطنا نهائيا لجميع أبنائه، وليس ظرفيا، نريده وطنا قويا يحصنه نظام سياسي جديد. وحتى لا ينزعج البعض أو يذهب بعيدا في تخيلاته، ندعو إلى “نظام تكميلي للطائف” أو تعديلي لهذا الطائف، الذي قد لا يبقي حجرا على حجر في هذا البلد. وما شهدناه في انفجار المرفأ خير شاهد على فشل هذا النظام الذي يجهل المسؤول والفاعل معا. نعم نريد نظاما وطنيا مدنيا بالفعل، وليس بالشعر، “تبويس اللحى ما بقى يمشي” ولا سياسة التراضي، نحن نريد دولة يحميها نظام لا يحتمل التأويل، نظام واضح، نظام لدولة مدنية، لدولة قانون، دولة عابرة للطوائف، دولة إنسان وحقوق وواجبات وكفاءات ومسؤوليات، دولة لا طبقية ولا طائفية ولا احتكار سياسي فيها.
إن شعارنا اليوم وغدا وبعده: “يجب تطويع المشروع السياسي ليكون في خدمة لبنان واللبنانيين” وليس العكس، وأيضا ليس في خدمة الطائفية والطائفيين، نعم في خدمة المواطن، في خدمة الناس، في خدمة الفقراء كأساس لعدالة وبقاء الوطن، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال بعد مائة سنة على تأسيس لبنان أن يبقى لبنان طائفيا، وأن يكون هناك تمييز بين أجياله ومواطنيه، لأن ما صح سنة 1920 و1943 و1989 لا يمكن أن يصح اليوم أبدا، ولن يصح، فكفانا ندبا، وكفانا هروبا، وكفانا قتلا وتدميرا للبنان.
إن البلد الآن يعيش فراغا سياسيا مميتا على أثر استقالة الحكومة، والمطلوب هو إنقاذ لبنان من السقوط المروع، ولا نخفي سرا إذا قلنا أن النقاش في أوزان وأطر ومكونات الحكومة اللبنانية ومشروع عملها الآن هو نقاش دولي إقليمي، والتاريخ المعاصر التجريبي صريح بأن أكثر حكومات لبنان تصنع من خلال تسويات إقليمية ودولية، لأن الداخل اللبناني السياسي للأسف إلى الآن لم يبلغ الحلم، فهو عاجز أو يعجز نفسه. والقوى السياسية غير راشدة، تعجز عن إنتاج حكومة لا شرقية ولا غربية إلا قليلا، وهذا سبب إضافي لرد وفشل شعار الحياد والنأي بالنفس، لأننا نعيش في عالم صعب، عالم مر، عالم مليء بالذئاب، وإذا لم تكن قويا أكلتك الذئاب.
من هنا، ومن خلال مناسبة عاشوراء الحق ضد الباطل، عاشوراء التضحية والبذل، ندعو اللبنانيين جميعا إلى أن يكونوا عقلاء وحكماء، أدعوهم إلى الجلوس معا لنصنع لبناننا الجديد، لنتفاهم على قضايانا المصيرية، على شراكتنا وشركتنا ومحبتنا، ومشروع دولتنا، دولة المواطنة والإنسان، كفانا انقسامات ورهانات على عواصم العالم، ولتكن بيروت أقرب لنا جميعا من باقي عواصم العالم، فبيروت في قلوبنا، وما أصابها أصاب كل اللبنانيين، وجرحها جرح عميق وصل للقلب، وهي أقرب من واشنطن وأقرب من باريس وأقرب من الدوحة وأقرب من الطائف وأقرب من طهران، مع احترامنا للجميع. فبلدنا مأزوم، ويعيش زلازل حقيقية، وقد آن الأوان كي نعي جميعا هول الكارثة، وبخاصة من هم في سدة المسؤولية، من رؤساء وزعماء وقادة ومرجعيات، والخلاص لم يعد متاحا، ولا ممكنا، في ظل هذه الانقسامات، وهذه الصراعات، وهذه النزاعات، والحاجة أصبحت ملحة وضرورية لأن نبدأ جميعا وبعقلية جديدة نهجا وطنيا جديدا، وتعاطيا مسؤولا أمام مصير بلد بات في مهب الريح، ما يفرض علينا جميعا العمل معا من دون مواربة ولا قطب مخفية، وبخلفيات وطنية جامعة موحدة، داعمة لكل جهد يفضي إلى قيام حكومة قادرة على جمع الصفوف ولم الشمل، بعيدا عن الكيدية والتحدي والمزايدة والإسفاف.
ومن هنا نناشد وندعو إلى وقف لعبة الموت وتدمير البلد، والذهاب فورا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بأولويات وطنية، بعيدا عن إشارات أو بيانات القناصل والسفارات وإلا ضاع وطننا، وما أسهل أن يضيع الوطن حين يتحول مقامرة بيد السفارات.
إلى أهلنا في العالم العربي والإسلامي، ندعوهم للالتزام بأمر الله ونبيه وكتابه، بأن يخرجوا من لعبة الأمم، فلا يقتل بعضهم بعضا، ولا يدمروا أوطانهم وإنسانهم، وإلا فإنهم يعادون الله والرسول، ويخالفون القرآن الذي دعاهم إلى أن يكونوا في سبيل الله كالبنيان المرصوص. نعم، في يوم الهجرة النبوية، والملحمة الحسينية، نقول لكل العرب ولكل المسلمين ولكل أحرار العالم لا تضيعوا القدس، واعلموا أن أي تطبيع مع العدو الإسرائيلي هو ضياع للقدس، وعداوة مع الله، ومخالفة لنبيه وقرآنه وانحياز للباطل الذي هو إسرائيل، الكيان الغاصب والهاضم لحقوق الشعب الفلسطيني المظلوم.
في يوم هجرة النبي الأكرم وثورة سبطه الإمام الحسين (ع)، الأعظم حفظا لقيم الإنسان ومشروع دولته، أعود وأكرر أن لبنان الآن في العناية الفائقة، والصراع الإقليمي الدولي فيه وعليه، والنيران تلتهم المنطقة، والجميع في عين العاصفة، فلا تضيعوا وطنكم، وبادروا للتغيير والتغير السياسي والفكري، كي لا نندم يوما على خسارتنا لوطننا لبنان”.
المصدر: الوكالة الوطنية للإعلام