نص الخطبة
قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة ـ الآية 32
يواجه الإنسان في حياته الكثيرً من الازمات والمشكلات والتحديات والضغوط، الاجتماعية والوظيفية والمعيشية والمالية والصحية وغير ذلك.
فعلى الصعيد الاجتماعي قد يواجه الانسان ضغوطا ومشكلات في علاقاته الاجتماعية، في داخل بيته، مع زوجته أو أولاده، اوخارج بيته مع اقربائه او جيرانه او زملائه في العمل او مع من يتعامل معهم في الحياة العامة، وهذا النوع من المشاكل يؤثر في نفسية الانسان وخاصة إذا كانت المشكلة مع أهل بيته، فإن المشكلة اذا كانت داخل البيت ، مع الزوجة أو الاولاد اوالاقرباء القريبين هي اصعب وأشد إيلاما وتأثيرا في نفسيته مما لو كانت المشكلة مع شخص آخر، بعيد عن بيته واقربائه وعلى الصعيد الوظيفي والعملي فان اصعب ما يمر به الانسان هو الفقر او الجلوس عاطلا عن العمل ، لا يجد عملا او وظيفة، ولا يكون قادرا على اكتساب الرزق وتحصيل المال وتوفير متطلبات الحياة.
قد يعيش الانسان على المستوى المعيشي اوضاعا صعبة وضيقا نتيجة الاوضاع الاقتصادية والمالية المتردية في البلد حيث تنعدم فرص العمل وتقل الموارد او يجمد السوق فلا بيع ولا حركة تجارية ولا سيولة وما شاكل ذلك مما يشكل ضغطا ووضعا نفسيا صعبا على الناس
وهناك مشاكل قد يعانيها الإنسان في صحته، كاصابته بمرض في جسمه، او بمرض نفسي، فيصاب بالاكتئاب أو الإحباط، او اليأس.
هذه الازمات او بعضها قد تصادف الانسان في حياته وهناك الكثير من الناس يعيشون مثل هذه الازمات خصوصا اليوم في ظل الاوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمر فيها لبنان نتيجة سوء ادارة الدولة والتقصير والإهمال ونتيجة الهدر ونهب المال العام والفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة فكيف يواجه الانسان مثل هذه الضغوط هل يواجهها بفقدان الامل واليأس ام انه يواجهها بتحمل المسؤولية والاعتماد على الله في اموره؟؟.
البعض يواجه ضغوط الحياة بالإحباط، والاكتئاب واليأس والتأزم النفسي بحيث يصبح يشعر بالفشل وعدم جدوى الحياة، نتيجة مشاكله المادية، واوضاعه المعيشية او العائلية والاجتماعية فتضطرب حياته، بل قد يلجأ البعض إلى الانتحار، وحسب الإحصائيات الحديثة هناك %14 من سكان العالم يعانون من الاكتئاب الشديد، أما حالات الانتحار فحدث عنها ولا حرج، فوفقًا لأحدث بيانات مُنظمة الصحة العالمية الصادرة في 2018 ينتحر نحو 800 ألف شخص سنويًا، وهو عدد لا يستهان به؛ إذ ينتحر شخص كل 40 ثانية، ويبلغ المتوسط العالمي لعدد المُنتحرين 10.6 أشخاص من كل 100 ألف شخص.
وقد تصدرت أوروبا مناطق العالم بمتوسط انتحار بلغ 15.4، لكل 100 الف وتاتي فرنسا فى الترتيب الثالث بعد فنلندا وبلجيكا فى معدلات الانتحار على المستوى الأوروبي.
وفي تقرير للمركز الأمريكي لمكافحة الأمراض والوقاية منها، ذكر: أنّ معدلات الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1999حتى عام 2016 ارتفعت إلى %30، ويشير التقرير إلى أنّ سنة 2016م شهدت أمريكا 45 ألف حالة انتحار. وهناك ارتفاع في معدلات الانتحار وسط الجنود الأمريكيين
اما في لبنان فبحسب احصاءات قوى الأمن الداخلي ارتفعت معدلات الانتحار في لبنان من 112 حالة في العام 2009 الى200 حالة في العام الماضي 2018، أي بمعدل حالة انتحار واحدة كل يومين تقريبا. والسبب غالبا هو الضغوط النفسية الناجمة عن ازمات عاطفية، واجتماعية، واقتصادية، اضافة الى أسباب اخرى حيث هناك بعض الأمور الاخرى تؤدي لارتفاع دوافع الانتحار مثل، الادمان على المخدرات، الأدوية، الألعاب الالكترونية، والابتعاد عن الدين، عدم امتلاك ثقافة التوجّه الى الطبيب النفسي للمعالجة.
ونسبة الشباب في المنتحرين في لبنان عالية حيث يعاني الشباب اللبناني من البطالة ومن انسداد الأفق الاقتصادي.
الاسلام يرفض اليأس ويرفض الانتحار ايا تكن الاسباب والظروف والضغوط التي يواجهها الانسان في حياته.
الإسلام يدعو الانسان الى الثقة بالله ويحثُّ على السعي والعمل والكفاح وعدم فقدان الأمل، ومقاومة العجز واليأس والكسل، وكل أسباب الضعف.
الإسلام لا يرضى للانسان الخضوع للعجز والاستسلام للأحداث وضغوط الحياة كريشة في مهب الريح.
حياة الإنسان مليئة بالأكدار والمشاكل التي تنغص الحياة وتجعلها جحيماً بعدما كانت نعيماً. والناس تجاه تلك المشاكل: إما مؤمّل بالخير والفرج وإما يائس من حصول الخير، ولكل شيء حكمة في شريعة الله، وعندما نتدبّر في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة نجد أنهما يدعوان دائماً إلى التفاؤل، وحسن الظن، وانتظار الفرج، والى الأمل مع الصبر، من دون جزع ولا فزع.
الاسلام دائماً يدعو الانسان إلى أن يكون مستبشراً بالخير، مطمئناً بما قدره الله له وبما قسم له من الرزق، منتظراً الفرج من الله عز وجل، وقد نهى الله عن اليأس والقنوط مهما كانت الظروف والمصائب.
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر:53
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران:139
ويقول عن لسان يعقوب وهو يامراولاده بالبحث عن اخيهم يوسف: (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف:87
أيوب عليه السلام، أقعده المرض، ولم يستطع احد من الاطباء شفاءه لكنه لم يياس بل رفع يديه وتضرع الى الله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ) الأنبياء83-84
رسول الله صلى الله عليه واله يعلن ويقول: ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ).
فالمؤمن يجب ان يكون الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، وفي مواجهة المصاعب والمآسي والمصائب والآلام، وفي كل شؤونه، يجب ان يكون قوياً كي يستطيع أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات، يجب ان يكون ايمانه بالله قويا وعندما يقع في ازمة يقول: قدر الله وما شاء فعل. فيرجع الأمور إلى الله ويلجأ اليه ويستمد القوة منه ولا يدع الإحباط واليأس يستولي على قلبه وشخصيته.
اليأس والتشاؤم ليسا من طبع المؤمن؛ لأن المؤمن يحسن الظن بالله عز وجل ويتوكل عليه، ويؤمن بقضائه وقدره، وحين يتعامل المؤمن مع الأحداث الهائلة التي تحصل له بمثل هذه الروح القوية، فإن الشدائد تتصاغر في نظره مهما عظمت، وتتولّد في نفسه قوة تعُينه على مواجهة الصعاب، وتجعله يتعامل معها بواقعية بحيث يضع الأمور في نصابها، من دون تهويل ولا مبالغة.
هناك الكثير من الناس لا يضعون الأمور في نصابها، ولا يعطونها حجمها الواقعي، بل يميلون إلى التهويل والمبالغة في التعامل مع المشكلات، وقد صور القرن الكريم هذه الحالة في عدد من الآيات، كما في قوله تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} [الإسراء:83]. وقوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ . وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:9-10].
ومن رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه منَّ عليهم فمنحهم القوة على مواجهة ازمات الحياة، ووهبهم ما يعينهم على وضع الأمور في نصابها وأن تكون نظرتهم للحياة ايجابية ومعتدلة من غير إفراط ولا تفريط، وقد صور القرآن الكريم حال المؤمنين هذه بعد الآيات المتقدمة من سورة هود بقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11].
فالاطمئنان النفسي لا يحصل لدى الانسان إلّا بالإيمان بالله القادر على كلّ شيءٍ فانه حينما يؤمن الإنسان بالله القادر على كلّ شيء، الرحيم الرؤوف بعباده، ويعمق ثقته بالله وبرحمته فإنه يشعر بانه يستند الى قوة دعم تبعث الطمأنينة في النفس، ، كما ان الله تعالى يوجه الإنسان الى أن ينفتح عليه، ويلجأ اليه ويتوجه اليه بالدعاء يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾.
لهذا نجد أنّ حالات الاكتئاب واليأس في المجتمعات المتدينة أقلّ وأخفّ منها في المجتمعات الأخرى، مع أنّ الضغوط الخارجية الحياتية كبيرة في المجتمعات المتديّنة، كما هو الحال في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية.
والاسلام يرفض الانتحار فالقاعدة الشرعية في الإسلام هي تحريم قتل النفس لأي سبب ولا يباح لإنسان أن يزهق روحه كتعبير عن ضيق أو احتجاج أو غضب.
كل انسان في بداية شبابه قد يبتلي بتجربة مادية، يخسر فيها، أو تجربة اجتماعية لا يوفق فيها، أو تجربة عاطفية غير ناجحة، لكن الانتحار ليس هو الحل”.
“الانتحار هو عمل المنهزمين والفاشلين والضعفاء، فبالرغم من وجود ظروف صعبة، إلا أنه يجب العمل على تجاوزها بدل الاستسلام”.
اليوم مسؤولية الدولة رفع الاسباب التي تؤدي بالشباب وبعموم الشعب اللبناني الى الياس والاكتئاب والانتحار او الى الهجرة وتوفير فرص العمل للشباب وخلق حوافز تشجع هذه الشريحة على الفاعلية والانتاج ومعالجة الازمات التي تشكل ضغطا وعبئا على المواطنيين.
البلد فيه الكثير من الطاقات والإمكانات والقدرات ولكنه بحاجة إلى حسن إدارة، لان ضعفنا هو في سوء إدارة هذا البلد وفي المشاكل الاقتصادية والمالية التي تفاقمها الولايات المتحدة الامريكية من خلال الحرب الاقتصادية والعقوبات والاجراءات التي تفرضها على البنوك والمصارف والمؤسسات والاشخاص بهدف الابتزاز السياسي وفرض الهيمنة على لبنان .
ولمواجهة هذه التحديات والمشكلات وخاصة مشكلة التدخل الامريكي بالشأن المالي اللبناني، فان المطلوب موقف وطني جامع يرفض وضع لبنان تحت رقابة ووصاية امريكية ويضع حدا للهيمنة المالية الامريكية على البلد، ومن جهة اخرى فان على الحكومة ان تتحمل مسؤولياتها على صعيد الوضع المالي والاقتصادي والاسراع في معالجة ملف التلاعب بسعر العملة الوطنية وسائر الملفات الشائكة باعتماد سياسات واجراءات مالية واقتصادية تحمي الليرة اللبنانية ، وتؤدي الى تخفيف الإنفاق غير المجدي ووقف التهرّب الضريبي و إيقاف الهدر والفساد، وتحصين إيرادات وحقوق الدولة، فهكذا يكون الإصلاح الذي يمكن أن يخرجنا من نفق الأزمات النقديّة والاقتصاديّة.
المصدر: موقع المنار