بينما كان التطور العلمي نعمة لكثير من البشر وجعل حياتهم أكثر راحة، إلا أنه كان نقمة على كثير من الناس الذين فقدوا وظائفهم، بعد أن انتفت الحاجة لمهنهم العتيقة لعدم الحاجة إليها بعد ظهور تقنيات جديدة تؤدي المهمة نفسها بكفاءة أكبر وتكلفة أقل.
هذا لا يمنع أن بعضاً من هذه المهن المنقرضة كانت تمثل عبئاً صحياً وجسدياً ونفسياً على أصحابها، ونتناول في هذا التقرير أمثلة لمهن انقرضت نتيجة التطور العلمي.
1- جامع ديدان العلق: العلق ديدان ملساء تعيش في البرك والجداول الصغيرة، وتتغذى على الدم الذي تمتصه من كائنات أخرى، مثل الأسماك والضفادع والثدييات. ومنذ القرون الوسطى إلى منتصف القرن التاسع عشر، شاع في أوروبا استخدام ديدان العلق؛ لعلاج بعض الأمراض، عن طريق امتصاص الدم الفاسد من جسم المريض.
ولشيوع تلك الممارسات الطبية، امتهن بعض الناس جمع العلق عن طريق الخوض في البرك بأرجلهم العارية التي تجذب العلق إليها؛ لينشب فيها ممصاته ويحصل على وجبته من دمائهم، وبعد أن يجمعوا عدداً كافياً منها يبيعونها للأطباء. ومن مخاطر تلك المهنة تعرُّض الجروح الناتجة عن ممصات العلق للتلوث والعدوى.
وفي عصرنا الحالي، لا تزال هناك استخدامات طبية لديدان العلق، التي تُربى في مزارع خاصة؛ للاستفادة منها في مجالات الجراحة والصيدلة.
2- طارق النوافذ: في عصر الثورة الصناعية وقبل اختراع المنبه، احتاج عمال المصانع في إنكلترا وأيرلندا لمن يوقظهم من نومهم قبل موعد العمل، فظهرت مهنة طارق النوافذ؛ لضمان وصول العمال في موعدهم، وعدم توقف العمل.
إذ كان أصحاب المصانع يستأجرون شخصاً يمر على منازل العمال النائمين لإيقاظهم في الموعد المحدد بطرق أبوابهم ونوافذهم. وكان يستعين على ذلك عادةً بعصا طويلة يطرق بها على النوافذ.
ثم انقرضت هذه المهنة تدريجياً مع رواج الساعات المنبهة، لكن لا يمكننا القول إنها اختفت للأبد؛ ففي بعض البلاد العربية، تظهر هذه المهنة بصورة احتفالية كل عام مع قدوم شهر رمضان، إذ يمر المسحراتي حاملاً عصا قصيرة، ويقرع بها على طبلة وهو ينشد بعض الأزجال؛ لإيقاظ النائمين وحثهم على تناول وجبة السحور لتعينهم على الصيام.
3- قارئ الصحف: قبل اختراع الراديو، كانت التسلية المتاحة للعمال في مصانع السيجار بكوبا وفلوريدا هي الاستماع لشخص يقرأ عليهم الصحف بصوت مرتفع، بينما يؤدون عملهم الرتيب. كان العمال يشكلون لجنة منهم لاختبار المتقدمين لهذه الوظيفة، والتأكد من تمتعهم بمهارات الإلقاء، مثل جهارة الصوت وسلامة النطق. ويسهم كل عامل بدفع جزء من الأجر المخصص لهذا القارئ.
وإلى جانب الصحف، كان العمال المثقفون يختارون أيضاً بعض الروايات الأدبية الكلاسيكية، مثل الكونت دي مونت كريستو ودون كيشوت. وأحياناً، كان صاحب المصنع ينزعج مما يسمعه ويخشى أن يتمرد العمال؛ فيعمد إلى طرد قارئ الصحف، ليرد العمال بالإضراب، ما يدل على أهمية قارئ الصحف لديهم، وهو ما عوضتنا التكنولوجيا عنه، إذ يُمكن لهواتفنا المحمولة قراءة أي شيء نريده.
4- حاسوب بشري: قبل اختراع الحاسوب، كان ذلك الاسم يطلق على الشخص الذي يجري الحسابات المعقدة ويتعامل مع الجداول. هيمنت النساء على هذا المجال؛ نظراً لكفاءتهن وانخفاض أجورهن مقارنةً بالرجال، وكانت لهن إسهامات كبيرة في علم الفلك وفي الحرب أيضاً.
عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، وُظفت مئات النساء أو الحواسب البشرية لإجراء الحسابات المعقدة الخاصة بتوجيه القصف المدفعي، التي تتضمن سرعة الرياح واتجاهها ودرجة حرارة الهواء وكثافته وتفريغ نتائجها في جداول. وبفضل تلك الجداول، تمكَّن الجنود والضباط بسلاح المدفعية من توجيه قذائفهم بدقة في ميادين القتال، خلال وقت قصير نسبياً.
أما في مجال علم الفلك، فقد استعان إدوارد بيكرنج، مدير مرصد جامعة هارفارد بثمانين حاسوباً بشرياً أنثوياً؛ لتصنيف النجوم وفهرستها. وأطلق على هذه المجموعة “حريم بيكرينج”، وكانت تضم آني جامب كانون، التي نجحت بفهرسة 350 ألف نجم، وطورت نظام تصنيف النجوم، الذي أقره الاتحاد الفلكي الدولي في عام 1922، باعتباره نظام التصنيف الرسمي للنجوم المستخدم حتى يومنا هذا.
لكن مع التطور الذي نعيشه الآن لم نعد بحاجة إلى بشري ليحسب ذلك بنفسه.
5- محول المكالمات: قديماً، كان لا بد أن تبدأ الاتصال بالسنترال أو المقسم، حيث يجلس الشخص المسؤول عن تحويل المكالمات، والذي كانت مهمته تبديل خطوط الهاتف يدوياً لإجراء مكالمة مع شخص يوجد في مدينة أو دولة أخرى.
كانت هذه المهنة تهيمن عليها النساء لأسباب اقتصادية بحتة، وهي انخفاض أجورهن. وإلى جانب تحويل المكالمات، كان يتم تدريب العاملين بهذه المهنة على إجابة استفسارات المتصلين بلباقة، وكيفية التصرف الصحيح في حالات الطوارئ؛ لتوفير الإرشادات الضرورية للمتصل لحين استجابة الجهة المختصة.
أما اليوم، ومع هيمنة التحكم الآلي بنظم الاتصالات، يُتوقع أن تتراجع الفرص المتاحة لممارسة هذه المهنة بنسبة 20% بنهاية العقد الحالي، وفقاً لتقديرات مكتب إحصاءات العمل الأميركي.
المصدر: هافينغتون بوست