أمين أبوراشد
إستقال أحمد داود أوغلو أمس من رئاسة “حزب العدالة والتنمية” في تركيا.
إستقال بهدوء بمؤتمرٍ صحفي مُسالم، ورفض الإفصاح عن أية خلافات مع الرئيس الفعلي للحزب/ رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، وقال أوغلو ب” أردوغان” كلاماً طيباً، وأعلن أنه لن يُرشِّح نفسه مجدداً لرئاسة الحزب خلال المؤتمر الطارىء المُزمع عقده في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، ورحل الرجل عن أعلى كرسي حزبي في تركيا، ويستعد حكماً للرحيل عن أعلى كرسي تنفيذي كرئيس لمجلس الوزراء، فبعد أربعةٍ وثلاثين عاماً من نظامٍ يمنح رئيس الوزراء الصلاحيات الواسعة، يسعى أردوغان الى إلغائها عبر تغيير نظام الحكم من برلماني الى رئاسي ليكتمل حلمه السلطاني باستعادة أمجاد أجداده من سلاطين بني عثمان.
برحيل أحمد داود أوغلو، تنتهي مسيرة هي أشبه بـ”زواج المسيار” بينه – هو المحافظ الأصوليّ – وبين أردوغان البراغماتي الوصوليّ، أردوغان الذي زرع العداوات الداخلية والخارجية لنفسه نتيجة الأقنعة التي يُبدِّلها كما يبدِّل ملابسه.
في الداخل، لا إسلامه (اردوغان) يُرضي جماعة فتح الله غولن الإسلامية المتشدِّدة، ولا يُرضي الأجيال التركية الطالعة المُطالبة بالحريات، وعلى المستوى الحزبي فهو عدو الحزب الجمهوري الرافض للنظام الرئاسي، وهو خصمٌ عنيد لحزب “الحركة القومية”، وهو عدوٌ شرس في المواجهات الدامية مع حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي).
في الخارج، فإن أردوغان يتظاهر بأنه مسلمٌ معتدل أمام أوروبا رغبة منه بإنضمام تركيا الى الإتحاد الأوروبي، وهو مع مصر “أخواني” متشدِّد يرغب باستحضار إرث حسن البنا الذي قامت حركته على مبدأ استعادة الخلافة الإسلامية بعد زوال آخر ولاية إسلامية عثمانية، وهو مع سوريا كذلك لإستعادة أمجاد السلطنة وأحلام التوسُّع، وهو مع إسرائيل قومي تركي عقد عام 2010 ستين إتفاقية معها لحماية تركيا.
كلفة المشاكل التي تتورَّط فيها تركيا، داخلياً وخارجياً، هي بسبب سياسات إنفعالية غير مسؤولة ترتبط بشخصية رجب طيب أردوغان العثماني الفكر والعقيدة والطموح، ويوم فاز “حزب العدالة والتنمية” بالغالبية الساحقة في الإنتخابات البرلمانية التركية خريف العام 2015، جاءت النتائج مخالفة للتوقعات، وتحقق هذا الفوز نتيجة استثمار رجب طيب أردوغان للموضوع الأمني المتوتِّر في البلاد، ورفع راية محاربة “الإرهاب الكردي” في الجنوب وعلى الحدود مع سوريا، وجاء تعيين أحمد داود أوغلو رئيساً للحزب والحكومة رغم الخلافات الجوهرية بين الرجلين على الصلاحيات، لكن ظروف المعركة السياسية فرضت نفسها، وكانت بداية رفقة الطريق بين الرئيس الطامح لتعديل الدستور وجعل نظام الحكم رئاسياً، ورئيس حزب وحكومة مُعارض لفكرة تحويل النظام من برلماني الى رئاسي، لكن الغلبة جاءت وفق شروط أردوغان، بضرورة العمل على أغلبية برلمانية تؤمن التصويت على تغيير نظام الحكم، أو اللجوء الى الإستفتاء الشعبي لتحقيق هذا الهدف، فلم يتمكن “حزب العدالة والتنمية” من استقطاب الأحزاب والمستقلين الرافضين لطموحات أردوغان، ولا استفتاء الشعب كان سيحقق نتيجة إيجابية، فكانت البداية لإعلان “الطلاق” يوم أمس ونهاية “زواج المسيار”.
منذ وصوله الى رئاسة الجمهورية التركية، بدأ أردوغان سياسته بالنزعة السلطانية، والتي سَبَق وتمثَّلت علناً ببهرجة القصر الرئاسي البالغ الفخامة بالجدران المطلية بالذهب والأثاث الذي يعكس مستوى غطرسة ساكن القصر، الذي مارس قبل الإنتخابات وبعدها بحق معارضيه وخصومه، كل أشكال الإرهاب الفكري والسياسي والأمني وقمع الحريات وكم الأفواه، وأطلق بحق شعبه أوصافاً واتهامات شنيعة، ووصلت حد التخوين بما لا يليق برئيس دولة، وقال للأتراك ما معناه: إما أنا وإما الفوضى والإرهاب، وقد نفَّذ ما قاله، مما إنعكس سلباً عليه في الشارع التركي، الطامح الى استمرار النمط الديموقراطي البرلماني الضامن للحريات والتطوُّر، والذي يؤهل تركيا للإنضمام الى الإتحاد الأوروبي، وأحمد داود أوغلو يُعتبر من هذا المعسكر المُضاد لأردوغان في “حزب العدالة والتنمية”.
أردوغان الحالم بإستعادة أمجاد أجداده من السلاطين واسترداد هيمنة السلطنة، والصلاة في الجامع الأموي بدمشق ولو عبر استخدام إرهاب داعش، يجد نفسه اليوم كما يقول المثل “لا بالشام صلَّى ولا بِدُمَّر لِحِق العيد”، فيما الإرهاب يعبث بالداخل التركي وفي قلب السلطنة، والى مزيدٍ من التصعيد، مما يثير الشائعات عن أن الجيش التركي الذي كان مؤتمناً على إرث مصطفى كمال أتاتورك وتركيا العلمانية، وقيَّد أردوغان صلاحياته وألحقها بمجلس الوزراء، هذا الجيش يشهد بين الحين والآخر ما يشبه الإستنفار المنضبط لوضع حدّ لجنون “السلطان” عند الضرورة، متى باتت الجمهورية في خطر.
والغليان السياسي يترافق اليوم مع الغليان الأمني في الداخل التركي، قبل أسبوعين من عقد “حزب العدالة والتنمية” مؤتمره الطارىء لإختيار رئيسه المرجَّح أنه سيكون أحد أقرباء أردوغان أو أحد الوزراء المقرَّبين منه وفق ما ذكرت قناة “سي أن أن تورك”، وسط غموض يحيط بالمستقبل السياسي لرئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، الذي سبق واجتمع بأردوغان منذ أيام بعد تعرّضه لاتهامات بـ “التآمر” وجهَّها مقربون من الرئيس، وبعدما نشر “مجهول” على الإنترنت ما سمّاها “نقاط خيانة الأمانة” التي سجَّلها أردوغان على داود أوغلو كرئيس للحكومة، في تقريرٍ شبه استخباراتي، أحصى على أوغلو أنفاسه وتحرّكاته وعلاقاته وتصريحاته، ولم يعلّق عليه قصر الرئاسة، كما لم ينفِ معلومات أفادت بأن مستشاراً للرئيس التركي كَتَبَه بحسب ما أشارت صحيفة الحياة، مما دفع بأوغلو أن يقول أمام الكتلة النيابية لـ “حزب العدالة والتنمية”: “لا أخشى سوى الله، ولا أهتم بما يُكتب ويقال عني، وأنا مستعد للتخلي عن أي منصب، وأن أضحي بنفسي في سبيل بقاء الحزب متماسكاً”.
ما ورد في التقرير خطير بالنسبة لمستقبل داود أوغلو ووحدة هذا الحزب، حيث أشار إلى أن “أوغلو لم يلتزم شرطين وضعهما أردوغان لتسليمه الزعامة الحزبية، وهُما: إقرار نظام حكم رئاسي والامتناع عن التعاون مع الغرب الذي يريد إطاحة أردوغان”، وحمَّل رئيس الحكومة مسؤولية تدهور إدارة الملف السوري، ومتهماً إياه بالتفريط في الملف الكردي، وبالتواطؤ أحياناً مع مؤامرات جماعة الداعية المعارض فتح الله غولن، في محاولات إلصاق تهم فساد بأردوغان وعائلته، وتساءل التقرير عن سبب طلب أوغلو لقاءً مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في واشنطن، بعد شهر على لقاء الأخير أردوغان، معتبراً أن ما يحدث بين أوغلو وأردوغان ليس تنافساً سياسياً، بل حرباً، واتَّهم التقرير رئيس الوزراء بـ “التآمر مع الغرب من أجل إطاحة أردوغان من الرئاسة والانقلاب عليه”.
وفي المحصِّلة، فإن أردوغان الذي ظل رئيسا للوزراء أكثر من عشـرِ سنوات، قبل انتقالـه إلى منصب الرئاسة في آب/أغسطس 2014، يصفه منتقدوه بأنه أصبح متسلِّطا أكثر فأكثر مع تقدمه بالعمر، ويسعى للإمساك بكل مفاصل الدولة ووضعها تحت أمرته، وهو يترأس من حينٍ لآخر اجتماعات مجلسِ الوزراء في قصرِه، كما يحرص أن تكون اللجنةُ التنفيذية لحزب العدالة والتنمية زاخرة بحلفائه، وهذه الغطرسة السلطانية سوف تستفز الجيش يوماً بعد يوم، وانتفاضة استعادة “إرث أتاتورك” تحت رعاية الجيش غير مستبعدة.
أما أحمد داود أوغلو، الزعيم المستقيل من رئاسة الحزب، فهو يُعتبر الأخطر مستقبلاً على مستقبل أردوغان، كما يردد مستشارو الرئاسة التركية، وهو يريد تشكيل مجال سياسي لنفسه على حساب أردوغان، وربما بالتحالف مع فريق الرئيس السابق عبدالله غول الذي كان أول دافعي أثمان طموحات أردوغان، بحيث يغدو أوغلو أقوى معارضي أردوغان الذي استخدم الدين سلالم وصول الى سدَّة السلطة والسلطنة منذ كان في “حزب الفضيلة”.
المصدر: موقع المنار