سببت البكتيريا أمراضاً وأوبئة فتكت بملايين البشر على مدى التاريخ. وكان اكتشاف المضادات الحيوية فاتحة عصرٍ جديد في صراع البقاء بين البكتيريا والإنسان، الذي ظن أنه ربح هذه الحرب نهائياً.
لكن البكتيريا -على صغرها وبدائيتها- نجحت بالصمود والبقاء، بل طورت مقاومتها للمضادات الحيوية؛ لتضع البشرية أمام تحدٍّ حقيقي. فكيف فعلتها البكتيريا؟
في دراسة حديثة بجامعة كاليفورنيا سان دييغو، اكتشف الباحثون أن خلايا البكتيريا تتواصل مع بعضها من خلال إشارات كهروكيميائية، تماماً مثلما تفعل الخلايا العصبية لدى البشر. تمكّن هذه القدرة من تواصل خلايا البكتيريا، وتبادل المعلومات والتنسيق فيما بينها، كما لو كانت كائناً متعدد الخلايا؛ ما يزيد من فرص نجاحها في مقاومة المضادات الحيوية، والتصدي لهجوم الخلايا المناعية.
درس الباحثون نمو الأغشية الحيوية البكتيرية في المختبر، من خلال مراقبة استهلاك مستعمرات البكتيريا للمغذيات اللازمة لنموها وتكاثرها. ولاحظوا أن المستعمرات تستمر بالنمو إلى أن تبلغ حجماً معيناً، ثم تتوقف عن النمو لفترة قصيرة، قبل أن تعاود النمو مجدداً، لكن على فترات متقطعة وليست متواصلة مثلما كانت تفعل سابقاً؛ ما أثار فضول الباحثين، ودفعهم للبحث عن السبب وراء هذا السلوك.
افترض الباحثون وجود شكل من أشكال التواصل بين مستعمرات البكتيريا، لتنسيق إدارة الموارد الغذائية فيما بينها.
وللتحقق من صحة هذه الفرضية صبغ الباحثون مستعمرات البكتيريا بصبغة خاصة، تتألق عند تعرضها لتيار كهربي، فوجدوا أن خلايا البكتيريا ترسل إشارات كهربية بواسطة تنظيم مرور أيونات البوتاسيوم خلال فجوات في غشاء الخلية، تعرف بالقنوات الأيونية.
قال الدكتور جرول سول، قائد الفريق البحثي “لقد اكتشفنا أن خلايا البكتيريا تستخدم القنوات الأيونية للتواصل فيما بينها بواسطة الإشارات الكهربائية، تماماً مثل الخلايا العصبية في أدمغتنا”.
وأضاف “حتى الآن، يبدو أن تلك الإشارات الكهربائية تتحكم فقط في تنظيم عملية التمثيل الغذائي للمستعمرة”.
عندما تنمو المستعمرة البكتيرية لحجم معين، يمنح شكلها الدائري أفضلية للخلايا الموجودة على حافتها الخارجية في الحصول على المغذيات من البيئة المحيطة بها، بخلاف تلك الخلايا الموجودة في مركز المستعمرة، التي تعاني من قلة المغذيات.
فترسل الخلايا الجائعة إشارة إلى الخلايا في الخارج بالتوقف عن النمو، والبدء في تمرير المغذيات إلى مركز المستعمرة. وعندما تحصل الخلايا الجائعة على كفايتها من المغذيات تتوقف إشارة الجوع؛ ما يسمح للخلايا الخارجية بمواصلة النمو، وهكذا يزداد حجم المستعمرة مجدداً بعد فترة من التوقف.
وفي دراسة أخرى بجامعة أدنبرة، وجد الباحثون أن البكتيريا تستجيب بشكل مختلف للإشارات الكيميائية الواردة إليها حسب السياق، وهذه القدرة على التواصل التوافقي، أو استخدام اللغة لإدراك البيئة، وتبادل المعلومات، لم تكن معروفة إلا لدى البشر وبعض الرئيسيات الأخرى.
أوضح الدكتور سام براون من كلية علوم الأحياء بجامعة أدنبرة “لقد بدأنا للتو نستكشف مدى تعقد مجتمعات البكتيريا، وتأثير ذلك التعقيد على الأمراض”، وأضاف “إن تمكنا من حل شفرة لغة البكتيريا فسيتيح ذلك لنا فهم التواصل ضمن إطاره الحيوي الأكبر، ويمهد الطريق للبحث في آليات جديدة لعلاج الأمراض”.
تعيق معظم العلاجات المضادة للبكتيريا أشكال التواصل كافة بين خلايا البكتيريا، ما يؤدي لتغير استجابتها، وظهور سلالات مقاومة للمضادات الحيوية.
وهذه السلالات المقاومة قد تسبب أمراضاً أشد وأخطر، لا تستجيب لمعظم العلاجات المعروفة. وفي سعيهم الحثيث للتغلب على مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، يأمل العلماء أن تساعدهم دراسة التواصل بين البكتيريا في اكتشاف السبل الفعالة لإعاقة إشارات محددة فقط بين خلايا البكتيريا، كي لا تسبب ضرراً للإنسان، ولا تؤدي، في الوقت نفسه، لظهور سلالات مقاومة للمضادات الحيوية.
المصدر: هافنغتون بوست