لم يكن مفاجئاً الإعلان عن اتفاق تبادل السجناء بين واشنطن وطهران في مقابل إفراج واشنطن عن ودائع إيرانية مجمدة في الخارج تصل إلى 10 مليارات دولار، بحسب ما تقول إيران، و6 مليارات بحسب ما تقول واشنطن.
مما لا شك فيه أن هذا الاتفاق أو «صفقة الدوحة» كما أطلق عليه، قد شكل نموذجاً جديداً من التواصل الأميركي الإيراني ولو كان عبر مسقط أو الدوحة، فلقد نقلت محطة «سي أن إن» الأميركية، عن مصادر أميركية موثوقة، بأن «صفقة الدوحة» استمر التباحث حولها لعامين، وكان وزير الخارجية الإيراني حسين أميرعبد اللهيان أكد في وقت سابق، أن الصفقة قد تمت في شهر آذار الماضي قبل أن تنفي واشنطن ذلك لاحقاً.
وبعد كف يد المبعوث الأميركي المعني بالملف النووي الإيراني روبرت مالي ومنحه إجازة مفتوحة للتحقيق معه في ما إذا قام بتسريب معلومات حساسة، ساد الاعتقاد بأن المفاوضات الأميركية الإيرانية غير المباشرة قد توقفت، وبأن إسرائيل قد نجحت في تسديد ضربة قاضية لفرص التوصل إلى أي تفاهم أميركي إيراني حول الملف النووي.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن روبرت مالي، قاد فريق التفاوض الأميركي المباشر وغير المباشر مع إيران منذ وصول الرئيس جو بايدن للحكم في كانون الثاني 2021، مُكلفا بإعادة التفاوض حول اتفاقية الملف النووي الإيراني التي انسحبت منها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في 2018.
رغم تنحية روبرت مالي وتوقف المفاوضات الإيرانية الأميركية حول الاتفاق النووي، إلا أن الإعلان عن صفقة تبادل السجناء جاءت لتؤكد بأن الاتصالات عبر القنوات الخلفية بين إيران وأميركا، بقيت ناشطة ومتعددة، من سلطنة عُمان إلى قطر وسويسرا، وذلك للتوصل إلى تفاهم «نووي» جديد يتضمن تجميد تخصيب إيران لليورانيوم عند نسبة 60 بالمئة في مقابل تخفيف بعض العقوبات الأميركية، وربما الإفراج عن ودائع إيرانية أخرى «لشراء الغذاء والدواء» وفق التوصيف الأميركي.
وفي هذا الصدد كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أن إيران أبطأت في الأسابيع الأخيرة من وتيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة، وبأنها قلّصت جزءاً صغيراً من مخزونها المخصب، بعدما كانت قريبة من نسبة الـ90 بالمئة اللازمة لصنع سلاح نووي.
ومع إبطاء إيران وتيرة تكديس اليورانيوم، لوحظ انخفاض كبير في الاشتباكات بين الفصائل المتحالفة مع إيران والقوات الأميركية في كل من العراق وسورية، وكأن المقصود السير نحو تهدئة غير معلنة، رغم الإصرار الأميركي على قطع التواصل البري بين العراق وسورية عند نقطة حدود البوكمال القائم، وذلك لزيادة تضييق الخناق الاقتصادي على سورية من جهة، ومن جهة أخرى لمنع وصول الإمدادات إلى الفصائل المتحالفة مع إيران، في سورية ولبنان وفلسطين المحتلة.
تدرك واشنطن أن العودة إلى الاتفاق النووي كما كان في العام 2015 بات مستحيلاً، خصوصاً مع تبدل الظروف والمعطيات والإدارات في كل من واشنطن وإيران، ويبقى السؤال هل وضِع اتفاق تبادل السجناء والإفراج عن أموال إيرانية مجمدة أو «صفقة الدوحة» في إطار التفاهمات التي تقود إلى انجاز اتفاق نووي إيراني أميركي بنسخة جديدة قد يغير وجه المنطقة.
المسؤولون الإسرائيليون أبدوا تخوفاً واضحاً من احتمال التوصل إلى تفاهمات أو اتفاقات أوسع بين إيران وأميركا، هذا التخوف الإسرائيلي وصل حد الخلاف البائن بين تل أبيب وواشنطن.
الرئيس الأميركي جو بايدن وفي رسالة تطمينية موجهة إلى إسرائيل مستبقاً الاعتراضات الإسرائيلية المتزايدة قال: إن واشنطن تقارب الملف الإيراني من موقع قوة وليس من موقع ضعف، ولهذا ترجم إعلان وزارة الدفاع الأميركية إرسال ثلاثة آلاف جندي أميركي ومُدمرتين إلى مياه الخليج، بعدما كان تم إرسال مقاتلات «إف-35» و«إف-16» بهدف معلن هو «ردع» إيران ومنعها من اعتراض ناقلات النفط في مضيق هرمز.
وفي خطوة مماثلة عزز جو بايدن القوات الأميركية في سورية، وتمكنت إدارته من تجميد مسارات التطبيع مع سورية، عربياً، ومنع فك الحصار الاقتصادي عنها، وأيضاً نجحت إدارة بايدن في تجميد مفاعيل اتفاق بكين بين طهران والرياض، وذلك في مسعى واضح من الإدارة الأميركية لدحض فرضية انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط، وأن الصين تسلّلت إلى المنطقة، لتغيير الوجهة نحو الشرق.
قبل أشهر، ساد الاعتقاد أن اتفاق بكين أحدث صدمة جيوسياسية في المنطقة التي كانت تعتبر حكراً للنفوذ الأميركي، الأمر الذي مهد للصين أن تكون لاعباً رئيسياً في تقرير شؤون المنطقة والمساعدة على حل قضاياها الساخنة، ولاسيما من خلال المبادرة الصينية لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا وأيضاً من خلال مبادرتها لحل القضية الفلسطينية.
الزيارات المتتالية للمسؤولين الأميركيين للسعودية وللإمارات العربية المتحدة والتي قادها وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، واستتبعت بزيارات لكل من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان ومستشار البنتاغون دوغلاس ماكريغور، والإيحاء الأميركي بأن السعودية أصبحت قاب قوسين من التطبيع مع العدو الصهيوني، المترافق مع تجميد مسار الهدنة بين اليمن والسعودية، إضافة إلى تجميد تنفيذ اتفاق بكين بين طهران والرياض، كلها صبت باتجاه تعطيل كل ما من شأنه خروج دول المنطقة عن الطاعة الأميركية.
يدرك جو بايدن وهو على أبواب حملة انتخابية رئاسية شرسة ضد الرئيس السابق دونالد ترامب، بأن بيت القصيد هو التوصل إلى اتفاق أو تفاهم مع إيران يرفع من رصيده الانتخابي وذلك لارتباط هذه المسألة بأمن العدو الإسرائيلي، الذي يواجه انشقاقاً عمودياً في جبهته الداخلية، كما أن بايدن يريد القول للناخبين الأميركيين: لن نسمح بخروج المنطقة عن الهيمنة الأميركية وأنه تمكن من منع قيام إيران نووية بالطرق الديبلوماسية، ولم يضطر إلى خوض غمار حربٍ أخرى في الشرق الأوسط، على غرار الحرب الروسية الأوكرانية التي أصبحت مع تطورها مسألة حياة أو موت للنظام الأميركي الأحادي السائد.
يبقى أن نشير إلى أن الحشد العسكري «التصعيد الدبلوماسي الأميركي» الذي تشهده المنطقة لا يعني نشوب الحرب، بل لتعطيل مسار تحول المنطقة نحو الشرق، الأمر الذي يفقد أميركا سطوتها على دول المنطقة ويهدد مكانتها في العالم، ودليل ذلك أنه ورغم التصعيد والأجواء المشحونة بين إيران وأميركا في مياه الخليج والمنطقة، تم إنجاز صفقة التبادل مع إيران ولو كان فيه مصلحة مشتركة بين الطرفين، ليبقى السؤال: هل أن ما أعلن مجرد صفقة لتبادل السجناء والأموال بين إيران وأميركا، أم إننا أمام اتفاق نووي جديد؟