حظيت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد، إلى العاصمة الروسية موسكو، ولقاء القمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باهتمام واسع في روسيا وخارجها، رغم أنها تندرج في إطار العلاقات القوية التي تربط الجانبين، ولطالما مثلت سورية بالنسبة لروسيا منطقة نفوذ متقدم في الشرق الأوسط وعلى المياه الدافئة.
على مدى الأعوام الأخيرة، زار الرئيس بشار الأسد روسيا مراراً، وكانت في تشرين الأول عام 2015، وتشرين الثاني عام 2017 وأيار عام 2018 وأيلول عام 2021، فضلاً عن التواصل الهاتفي بين الرئيسين بوتين والأسد، حيث جرت آخر محادثة بينهما في 6 شباط الماضي.
لكن هذه الزيارة تختلف توقيتاً وشكلاً لجهة الاستقبال الرسمي على أرض المطار، وعزْف النشيدين السوري والروسي، واستعراض حرس الشرف، والسير على سجاد أحمر، وهذا الاستقبال يحمل دلالات مهمة، تكمن بالإقرار بدور سورية التي نجحت في تجاوز كل محاولات إسقاطها، وأن سورية اليوم دولة صارت عاصمة ارتكاز إقليمي وتتمتع بثقل دولي لا يمكن تجاوزه.
أما من ناحية التوقيت، فإن الزيارة تأتي في ظل ظروف مختلفة وتحولات تكاد تكون إستراتيجية في مشهد العلاقات الدولية والإقليمية، ولاسيما بعد الرعاية الصينية للاتفاق السعودي الإيراني، علاوة على ما طرأ من تحولات بعد كارثة الزلزال في سورية، وما تبعها من دعم وإسناد عربيين واسعين لدمشق.
مما لا شك فيه أن مسار التقارب التركي السوري، وعامل الانتخابات التركية ونتائجها التي ستنعكس بشكل كبير على طبيعة هذه التحولات، كانت في صلب المباحثات بين الرئيسين الأسد وبوتين، وخصوصاً أن موسكو وطهران، تراهنان على بقاء تركيا متبعة النهج الإقليمي الحالي.
الرئيس الأسد وفي معرض سؤاله عن احتمال اللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شدد على موقف سورية الثابت وهو أن سورية لطالما كانت مع الحوار، إذا كان سيُفضي إلى تحقيق مصالح الشعب السوري ووحدة وسلامة الأراضي السورية، ويصل إلى نتائج واضحة ومحددة، وعلى رأسها الاستمرار بمكافحة الإرهاب، وخروج القوات التركية والأجنبية غير الشرعية الموجودة على أراضيها.
وفي جانب آخر أضاف الرئيس الأسد: إذا كان أردوغان لديه مشكلة في الانتخابات التركية فنحن لدينا هدف تحرير الأراضي السورية من الاحتلال التركي، فسورية لا تعطي شيئاً بالمجان، أما الانتخابات التركية فهذا شأن تركي داخلي، ونحن لا نتدخل في الشؤون التركية الداخلية، فاللقاء مع أردوغان، يرتبط بالوصول إلى مرحلة تكون تركيا فيها، جاهزة بشكل واضح ودون أي التباس للخروج الكامل من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم الإرهاب وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء الحرب في سورية، مضيفاً بأن هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون هناك لقاء بيني وبين أردوغان، عدا ذلك ما قيمة هذا اللقاء، ولماذا نقوم به إذا لم يحقق نتائج نهائية بالنسبة للحرب في سورية؟
رسالة الرئيس بشار الأسد وصلت للحلفاء قبل الأعداء، وهي أن سورية سيدة نفسها وقرارها، وأن لا مساومة على قناعاتها ومبادئها الإستراتيجية، حتى مع الحليف الروسي أو الإيراني، وأن الموقف السوري نابع من الحرص على مصلحة سورية الإستراتيجية قولاً واحداً، وأن لا حليف ولا صديق يمكنه الضغط أو تغيير قناعات ومبادئ مدرسة الدبلوماسية للقيادة السورية.
حصول تحولات إستراتيجية وخاصة الدور الصيني المتصاعد، في هذه المنطقة الحيوية والإستراتيجية، من خلال رعاية بكين للاتفاق بين الرياض وطهران، والمتناغم مع الدور الروسي على حساب تراجع الدور الأميركي، قلب المشهد الإقليمي والدولي لمصلحة الصمود الروسي السوري، ولا نذيع سراً إذا قلنا إن مدرسة الدبلوماسية السورية كان لها الدور الإيجابي والفاعل، وأسهم في تسهيل رعاية الصين إتمام اتفاق بين السعودية وإيران.
التحولات الكبرى في المشهد الدولي تتجسد في نتائج الحرب الروسية-الأوكرانية، أما فيما خص منطقة الشرق الأوسط، وعلاوة على الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، لاحظنا تبدلاً في الخطاب والتعاطي بين أخصام الأمس، والإعلان عن اتفاق بين الحوثيين والسعوديين لتبادل الأسرى حصل في جنيف، إضافة إلى اتفاق على إنشاء منطقة عازلة بعرض 20 كلم على الحدود بين الطرفين، وإعلان السعودية رسمياً عدم وجود إمكانية للتطبيع مع إسرائيل قبل حصول الفلسطينيين على حقوق الدولة والإقرار بحق العودة، حسب القرار الأممي رقم 194، وضرورة تنفيذ بنود المبادرة العربية المنبثقة عن قمة بيروت عام 2002، إضافة إلى تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية علاوة عن ازمة الانقسام الداخلي في إسرائيل.
كل ما سلف ذكره أحدث في المنطقة حالة من الانشغال بإعادة الحسابات وترتيب الأولويات، وخاصة تلك الدول العربية التي تسابقت نحو تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، وأولى بوادر إعادة الأولويات والحسابات، جاءت من دولة الإمارات العربية المتحدة التي أعلنت عن إلغاء صفقة منظومة الدفاع الإسرائيلية، والتصريح الإماراتي الرسمي عقب زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، والذي أكد على عدم السماح باستعمال أرض الإمارات للاعتداء على إيران.
ولا يفوتنا الاتفاق الأمني بين إيران والعراق، والذي وقعه علي شمخاني مع نظيره العراقي قاسم الأعرجي، ويتضمن التنسيق في حماية الحدود المشتركة بين البلدين، وألا تكون أرض العراق، منطلقاً لاستهداف أي من الدول المجاورة.
ومن التحولات الحاصلة في المنطقة ما صرح به مساعد الشؤون السياسية في مكتب الرئيس الإيراني، بأن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وجّه دعوة رسمية إلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض، وأن هناك ترحيباً إيرانياً بتلبية الزيارة قريباً.
من هنا كان لا بد من العودة إلى سورية قلب العروبة النابض، وفي وقت لم تزل فيه زيارة الرئيس الأسد لموسكو تحتل اهتمام المحللين والمراقبين، جاءت زيارته لدولة الإمارات العربية واستقباله في المطار استقبالاً رسمياً، وعلى مستوى رئيس الدولة محمد بن زايد، وإجراء مباحثات رسمية تناولت ملفات مهمة بين البلدين لتعزيز أواصر العلاقة على الصعد الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، كدليل واضح أن سورية أضحت الميزان ونقطة ارتكاز مفصلية لا بد منها إقليمياً لمواكبة العرب تلك التحولات الإقليمية والدولية الجارية، بمشاركة ورعاية سورية.
عادت سوريا لتكون اللاعب العربي والإقليمي الأهم، وبوادر عودتها للعب دورها من اليمن والعراق إلى السعودية ولبنان مروراً بإيران، أضحت واضحة، ولذلك فإن زيارة الرئيس الأسد الشهر الماضي إلى سلطنة عُمان، وبالأمس إلى موسكو، ثم إلى الإمارات العربية المتحدة، تشكل فرصة لزيارات مماثلة لدول عدة وذلك لتثبيت الدور السوري المهم على الصعيدين الإقليمي والدولي وخاصة في ريادة ترتيب العلاقات الخليجية العربية مع إيران.
دبلوماسية القيادة السورية أثبتت قدرتها على إقناع الحليف، باحترام خيارات سورية الإستراتيجية، الهادفة إلى جعل أخصام الأمس يطلبون الصفح عما سلف، والإقرار بأهمية موقع الجمهورية العربية السورية في قلب العروبة، وفي المعادلة الإقليمية، وحتى في قلب النظام العالمي الجديد.
المصدر: بريد الموقع