في الفراغ الرئاسي السابق، كان الرئيس سعد الحريري يستعجل العودة إلى السلطة بعيد إخراجه منها قبل سنوات، وكان الرئيس ميشال عون يعدّ الأيام مدركاً أن مرورها ليس لمصلحته أبداً، وكان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يبحث عن مخارج مفترضاً أن ميشال عون أهون الشرور، وكان سيناريو الغرب يقوم على المواجهة المباشرة. وبالتالي، كان التحدي: من يلين أو ينكسر أولاً… فانكسر الحريري، ثم جعجع (أو العكس، كما يحلو للقوات القول)، وانتصر فريق بانتخاب مرشحه رئيساً.
اليوم لا شيء من هذا كله. لا الحريري هنا ولا عون ولا جعجع، أو من ينوب عنهم في أدوارهم السابقة. فيما انتقلت الولايات المتحدة والسعودية من المواجهة المباشرة بكل ما تحمله من تسرع، إلى استراتيجية الأرض المحروقة الطويلة الأمد، حيث يمكن للفراغ أن يستمر لسنوات طالما أن الماكينة الإعلامية الممولة منهما تنجح في تحميل الحزب المسؤولية عنه، وعن استمرار الانهيار. وعليه، فإن لعبة «عضّ الأصابع» التي حكمت الاستحقاق السابق ليست موجودة اليوم. فلا أمر عمليات أميركياً اسمه انتخاب رئيس للجمهورية، تُحشد له الجيوش الديبلوماسية والإعلامية و«المجتمعات المدنية». ولم تتجاوز محاولات إقناع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بتأييد ترشيح قائد الجيش جوزف عون حدود رفع العتب، قبل أن يسحب المعنيون بترشيح القائد بساطهم من تحت هذا الترشيح، مؤكدين أنهم ضد وصول مرشح مدعوم من الحزب، لكنهم ليسوا مع أي مرشح محدد آخر. «يمكن أن يأتي أي كان رئيساً للجمهورية، شرط أن لا يكون انتخابه انتصاراً لحزب الله»، تقول ديبلوماسية أوروبية.
وإذا كان الأميركيون يفضلون، بما لا يقبل أي شك، خوض معركة جدية للتمديد لجوزف عون في اليرزة أكثر بكثير من خوض معركة انتقاله إلى بعبدا، باعتبار وجوده في اليرزة أكثر أهمية على المستوى الاستراتيجي من وجوده في بعبدا، يمكن للكتل المحسوبة عليهم أن تتسلى بترشيح ميشال معوض فالنائب السابق صلاح حنين ثم ثالث فرابع. ولا مشكلة في عدم الوصول إلى نتيجة. المهم هو الظهور أمام الرأي العام بمظهر من يحاول ويحاول ويحاول، فيما الحزب يقول: سليمان فرنجية أو لا أحد، تماماً كما كان يقول سابقاً عون أو لا أحد. وهناك من يستعد، في الأسابيع المقبلة، ليزرع في لا وعي هذا الرأي العام أن قوى 14 آذار تراجعت خطوات من مرشح رأس حربة كمعوض إلى شخصية أكاديمية كتلوية هادئة ليس في أرشيفها أي موقف مستفز كحنين، فيما يرفض الآخرون ملاقاتها في منتصف الطريق.
ويقول ديبلوماسي أوروبي، في هذا السياق، إن المسؤولين الأوروبيين يقولون كلاماً واضحاً لنظرائهم اللبنانيين عن التزامهم مبدأ رفع العتب في حثهم اللبنانيين على انتخاب رئيس، لوجود مشكلات أهم بكثير بالنسبة لأوروبا من رئاسة الجمهورية اللبنانية. وحتى الاجتماع الرباعي المقبل في باريس، لا يعدو كونه محطة إضافية من محطات رفع العتب، إذ إنه من دون أي خريطة طريق أو نية جدية بالتدخل، لأن القرار واضح: هناك أزمة يتحمّل العهد والحزب مسؤوليتها، انتهت إلى فراغ رئاسي يتحمّل الحزب وحده مسؤوليته اليوم. لذلك، المطلوب إطفاء كل المحركات التي يمكن أن تفضي إلى انتخاب رئيس وترك الحزب يتحمل المسؤولية. وإذا كانت الأمور مقبولة نسبياً في الفراغ السابق لأن شريحة مهمة من الرأي العام المسيحي كانت تتمسك بوصول العماد عون إلى بعبدا ولأن حكومة الرئيس تمام سلام وجدت آلية للقيام بعملها، فإن وضع التعايش مع الفراغ أصعب اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية وانتقال الجمهور العوني وقيادته إلى المقلب الآخر المندد بمبدأ «فلان أو الفراغ» والتعطيل النسبي لعمل مجلسي الوزراء والنواب.
في ختام جلسة طويلة مع أحد الديبلوماسيين العرب، يسأل عما يمكن أن تفعله لو كنت صانع القرار في الإدارة الأميركية:
• تدفع ثمناً داخلياً أو خارجياً باهظاً مقابل انتقال جوزف عون من مكان أثبت فيه إنتاجيته بالنسبة إليك إلى مكان فخريّ لا قيمة تنفيذية له؟
• تصارع للفوز بالرئاسة حتى يحملك الجميع المسؤولية عن كل ما توارثته الأجيال من مشاكل في هذا البلد؟
• تعمل على إطالة الفراغ أكبر فترة ممكنة طالما أن ماكينتك الإعلامية تحمّل الحزب المسؤولية عنه؟
• تسهّل، بعد فراغ طويل، فوز المرشح المدعوم من الحزب لتواصل الحصار ست سنوات إضافية من تحميل العهد والحزب المسؤولية عن كل ما يحصل لتتضاعف النقمة أكثر؟
الديبلوماسي العربيّ يحرص على القول إنه يسأل نفسه هذا السؤال منذ أشهر، من دون أن تكون لديه أي معلومة في هذا الشأن. إلا أن ما ينشر من تقارير أميركية يبين مقارنة واشنطن بين استراتيجية المواجهة المباشرة (التي اعتمدت في لبنان بين عامي 2005 و2018) واستراتيجية الأرض المحروقة المحاصرة عن بعد (التي اعتمدت منذ عام 2019)، والخروج بنتيجة أن حصيلة السنوات الماضية كانت أفضل بكثير سواء من حيث النقاط أو التكلفة.
لا مبالاة عربية وغربية برسائل بطريركية عن أسماء تحظى بقبول وثقة كل من باسيل والسعودية والغرب
هذا ما يفسر، ربما، عدم اهتمام طرفي النزاع بمبدأ النقاش في ما بعد الرئاسة، اقتصادياً واجتماعياً ومالياً وتشريعياً، الذي يطرحه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وكأن الطرفين يسلّمان باستمرارية الأوضاع على حالها. فرغم رسائل سعودية إيجابية في إشارتها إلى التقاطع الهامشيّ، لكن الأول من نوعه مع باسيل (بعد كل ما نقله القطريون لهم) في ورقة الأولويات، فإن أحداً اليوم لا يطرح حلاً يبدأ بانتخاب الرئيس.
مصادر ديبلوماسية تؤكد أن بكركي طرحت مع مراجع عليا، إقليمية ودولية، أكثر من ثلاثة أسماء تحظى بثقة الدول الخليجية والأوروبية، وأبلغت البطريركية المارونية هؤلاء أن باسيل و16 نائباً من كتلته سيصوتون لأحدها إذا تأمنت موافقة كتل وازنة أخرى عليه. كما يحسم المطلعون بوجود أكثر من اسم يمكن أن تمثل تقاطعاً جدياً بين التيار وقوى أخرى تخاصمه منذ سنوات. لكن كل هذه الطروحات لم تصل إلى نتيجة. إذ يبدو أن ما من نية خارجية حتى اليوم لفتح هذا الباب. وكل المطلوب هو الإبقاء على الفراغ، وتحميل الحزب مسؤوليته.
اكتئاب ينتظر دوروثي… وسفراء مسرورون بمغادرتها
المسرورون بمغادرة السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا ليسوا كثراً في لبنان، وليسوا جميعاً لبنانيين. والمرجح أن السفيرة ذات الصيت المهني الضعيف، ستعاني اكتئاباً حاداً بعد أشهر قليلة على مغادرتها. صحيح أن هاتفها سيظل موصولاً بعشرات السياسيين والإعلاميين ورجال الأعمال والأصدقاء في لبنان، وستتمكن من تمضية بعض الوقت معهم، وتجيب بعبارات من نوع: ربما، أعتقد أنه من الأفضل، أشعر بأن الأمر سيكون على هذا النحو، انتبهوا ، حدثوني عندما تحتاجون إلى شيء، إذا واجهتم مشكلة مع خلفي، الفتوا انتباهي، إضافة إلى توصيات في صلب جدول أعمالها، من نوع: لا تنسوا أن المشكلة هي في حزب الله، اهتموا بالمنظمات غير الحكومية لأن دولتكم فاشلة، لا تثقوا بهذا السياسي فهو كان يكذب علينا، إلى آخره، من قاموس يحمله غالبية الديبلوماسيين الغربيين الذين يغادرون لبنان على مضض، ويعودون إلى حياة طبيعية، حيث لا مواكب ولا مآدب مفتوحة، ولا دهشة على الوجوه، ولا كاميرات تلاحق، ولا قائمة طلبات لمواعيد لا يكفي العام لتغطيتها.
بعض المسرورين من غير اللبنانيين، هم من نظراء للسفيرة الأميركية، وهؤلاء بدأوا منذ الآن التدقيق في هوية الخلف وقوته ونفوذه. إذ إن الأوروبيين منهم، خصوصاً الفرنسيين والألمان، يأملون بديبلوماسي يحتاج إلى وقت طويل للتعرف إلى الملف اللبناني، ما يتيح لسفيري فرنسا وألمانيا المجال للقيام بأمور كثيرة، من دون الخشية من تعرض مشاريعهما لضربة عاجلة كتلك التي كانت دوروثي شيا تقوم بها طوال الوقت. وبعض المسرورين أيضاً، هم سياسيون يعتقدون أن شيا كانت تبالغ في ادعاء المعرفة بالتفاصيل اللبنانية، خصوصاً أولئك الذين كانت تعاقبهم بالتجاهل، أو تنهر الموفدين منهم. أما الأكثر قلقاً واستنفاراً، فهم الذين يديرون الجمعيات الممولة من السفارة الأميركية، وسبق لهم أن تدربوا على كيفية التعامل مع السفيرة ويعرفون ما الذي يغضبها أو يفرحها، خصوصاً أن الخشية تسود غالبية هذه الجمعيات من الغضب الأميركي، كون التمويل الأوروبي بدأ يتراجع، والتنافس الآن هو على الأموال الأميركية، وهي أموال كانت تصل أيضاً إلى خزائن مؤسسات رسمية في الدولة، لا سيما منها الأجهزة العسكرية والأمنية.
على أن الأهم في كل ما سيحصل، هو أن اللبنانيين سيكتشفون سريعاً، أن السفارة الأميركية في بيروت، ليست لديها استراتيجية متماسكة حيال التعامل مع مشكلات لبنان، وأن العنوان الوحيد الذي يجري العمل عليه تلقائياً ومن دون الحاجة إلى توصيات، هو العمل على تطويق حزب الله وحلفائه، والاعتماد على ترويع من يتواصل معهم، والسعي الدائم إلى خلق أرجل اصطناعية لتثبيت رجال السفارة من كل الطوائف والمذاهب.
المصدر: صحيفة الاخبار